مدونة نعيم

نصوص على حافة الطريق

نبذة عني

الأربعاء، ١٧ سبتمبر ٢٠٢٥

ولأنكم سألتم: نعم إنه هو

ولأنكم سألتم: نعم إنه هو ..
كثيرون منكم كتبوا لي، يسألون:
"من هو العدو الذي أشرت إليه مرارا؟
أتقصد عفنان؟
وماذا حدث بينكما بالضبط؟"

كنت أتفادى الإجابة،
لأن بعض القصص، حين تُروى، تعيد لك الوجع كاملا،
لكن بما أنكم سألتم،
فلنقل الحقيقة كما هي، دون زخرفة، دون اختصار مؤلم.

منذ ثلاث سنوات، كنت في مدينة مغربية تدعى الجديدة، أقيم في فندق بسيط هناك.
وكان عفنان، الذي وجدني في تطبيق للتعارف، يلحّ عليّ بلقاء.
قال إنه يملك سيارة، وإنه مستعد أن يأتي إلى غاية الفندق.
رفضت، وقلت له بوضوح:
"لا أريد أن أكلّفك بنزينا… انتظرني حتى أمرّ على مدينة الدار البيضاء."
وكان ذلك وعدا بريئا ..

مرّت الأيام،
وجئتُ فعلا إلى كازا،
دون أن أخبره…
لكنه كان يُلاحقني في تطبيقات الدردشة.
عرف مكاني،
وأصرّ أن نلتقي.
التقينا.
ولم يشأ أن يفترق.
ظلّ معي لساعات طويلة،
في النهار، في المساء، وفي الغد أيضا.
كان يحب من يشاركه الأغاني في السيارة،
وكنت، لسوء الحظ، أحفظ عددا كبيرا من الأغاني الإنجليزية،
فأعجبه ذلك أكثر مما توقعت، أو رغبت.
ثم بدأ يلمسني.
شكرني على يدي، على شكلها،
ثم وضع يده في مكان لا يجب أن توضع فيه.
تحرش واضح، لم يحتج لتفسير.

لم يُبهرني أبدا ..
بدا متصنّعا إلى درجة تثير الشفقة، اعتقد أن تمثيله سيخدعني.
تحدث عن كل أصدقائه بخبث وسوء، كأنه يقتات من تشويههم.

تفاخر بساعته الـ Apple Watch كأنها وسام عظيم،
وابتسم ليُظهر أسنانا لامعة مصطنعة أكثر مما ينبغي.

لكن الصورة الحقيقية ظهرت في التفاصيل الصغيرة:
سيارته متّسخة، تفوح منها رائحة غريبة، وعلى مقاعدها شعر لحيوانات لا أعرف إن كانت قططا أم كلابا.
كنت أنتظر فقط اللحظة التي أنزل فيها وأهرب.
وحين وصلت إلى الفندق، قلت له إنني سأغيّر رقمي.
ابتسم ابتسامة باردة، وطلب أن نبقى على تواصل عبر إنستغرام.
وعلى مضض، شاركته حسابي.

قال لي إنه يريد شيئا أكثر من صداقة.
وإنه مستعد أن يتخلّص من صديقه الآخر،
لكن حين رفضت.
حين وضعت حدا واضحا،
شعر بالإقصاء.

بعد أيام .. بدأت تصلني رسائل غريبة من أشخاص في إزمير، تركيا.
كانوا يعرفون وجهي.
ينادونني باسمي.
وهناك فهمت أن عفنان كان على علاقة بأحدهم،
وأن الانتقام لم يكن انفعالا عابرا،
بل حملة متعمّدة.
راسلته.
رجوته أن يحذف الحساب.
رفض.
ثم حظرني.
قمت بتصوير نفسي وبطاقتي الوطنية،
وأرسلتها لإدارة إنستغرام،

أرسلتُ له يومها جملة واحدة:
"أنتم لستم رجالا."

ثم أغلقت الباب خلفي، وغيّرت رقمي.
كانت صدمة لم أتعوّد عليها، لم أتعود على قصص بهذا الشكل ..
هربت بعدها إلى شفشاون، أيّاما كاملة، أتمشّى بين أزقتها الزرقاء ..

قبل ذلك، كنت قد التقيت صديقا له صدفة. شاب طيب يبدو أنه كان يقيم معه لسنوات.
ودّعنا بعضنا كإخوة، دون حقد أو غل أو كراهية ..
لكنه وبعد ظهور عفنان، (الذي اكتشفت لاحقا أنهما صديقين) حظرني أيضا، دون تفسير.
وكأنني عدو مشترك في قصة لم أكن أعرف أنني جزء منها.

وجدت نفسي أمام عدة وجوه،
تغلق أبوابها في نفس اللحظة.
السيناريو ذاته، تكرّر بعد عام،
لكن هذه المرة بمشاركة شريك السكن الذي تعرفون قصته،
ذلك الذي اعتبرته أخا.

ثم ظهر اسم جديد…
الشخص الذي هددني باللجوء للشرطة، لأنه زعم أنني تحرشت به.
وقد أشرنا له لأول مرة في التدوينة السابقة.

نعم، كان عفنان.
وأنا مؤمنٌ بأن الزمن لديه ذاكرة أطول من ذكرى الغدر ..

صوت لم يُكتب

مقدمة

كل قصة تحمل صوتا آخر، رواية مختلفة، قد لا تُقال أبدا.
ولأن صاحبها لم يكتبها، اخترنا نحن أن نتخيّل كلماته، أن نضعها على الورق كما لو خرجت من فمه.
النص التالي ليس حقيقة، بل محاولة لكتابة صوته المفقود.


----------

إلى القراء الذين تابعوا الحكاية من زاوية واحدة…
سلامٌ عليكم، لعلّ هذه النصوص تصل كنافذة أخرى على ما جرى.
لا أعلم إن كنتُم ستفهمونني، ولا أعلم إن كان يهمكم أن تعرفوا،

مضت سنوات، وما زالت الكلمات عالقة في حلقي ..
وسأكتبها الآن كما هي… ببطء،
وكأنني أستعيد حياتي كلها في جملة طويلة واحدة.

إلى نائل ..
كنت هناك،
حين لم يكن لك مكان تنام فيه.
وحين لم يكن لك مكان تلجأ إليه.

أذكر تلك الليالي جيدا:
برد، جوع، وخوف لا ينتهي.
وأذكر أنني فتحت لك الباب،

لأن قلبي لم يعرف أن يتركك تمضي وحدك في الليل.
كان بيتي بسيطا،
جدرانه متصدعة،
أثاثه قليل،
لكنني وضعت فيه ما استطعت أن أضعه من دفء،
لأجعله يبدو لك مأوى،
ولو مؤقتا.

تقاسمنا خبزا حافيا أحيانا،
وصحنا صغيرا من العدس أحيانا أخرى.

كنت أضحك وأنا أقدمه لك،
كأني أخفي الألم بنكتة،
وأنت كنت تضحك،
فنصدق للحظة أننا نعيش حياة عادية.

أقرضتك ما لم أملك.
أعطيتك آخر ما في جيبي،
ثم عدت أنا ماشيا على رجلاي في شوارع طويلة ..
لأوفّر ثمن الطاكسي.

كنت أشعر أنني أفعل ما يجب أن يفعله أخ مع أخيه.
دعوتك إلى كل عيد،
إلى موائدي الصغيرة،
إلى أعياد الميلاد،
إلى المناسبات التي لم تكن لتكتمل من دونك.
كنت أجلسك إلى جانبي كأنك فرد من العائلة،
ظننت أنني فعلت ما يكفي لأحفظ هذه الصداقة.
ظننت أنني بنيت شيئا لا تهدمه الأيام.

أنا اليوم أكتب ببطء،
وأشعر أنني لا أكتب إليك فقط،
بل أكتب لنفسي أيضا.
لعلّي أجد في هذه الكلمات غفرانا،
أو عزاء صغيرا أنني كنت، يوما ما، صديقا حقيقيا.

الذي خذلك لم يكن ذاك الذي آواك،
ولا الذي ترك لك سريره لينام على الأرض،
ولا الذي خبأ حزنه كي يضحك معك.
ذاك بقي كما هو، حيّا في مكان ما داخلي.
والذي خانك… كان ظلا غريبا يحمل ملامحي،
لكنه لم يكن أنا.

اضطررت للكذب، لا لأنني أحببت الخداع،
بل لأنني كنت أحتاج أن أشتري وقتا، ريثما أصلح الفوضى التي صنعتها بيدي.
لم تتفهم ضعفي، ولم ترَ كم كنت أترنّح وأنا أحاول أن أبدو ثابتا.

وفي فترة من الفترات… أخبرك بالحقيقة؟ لقد خفت منك.
نعم، خفت أن تؤذيني.

خفت من غضبك الذي لا يحتاج إلى كلمة ليفضحني.
وحين انهارت آخر الجسور، لم تأتني منك نظرة وداع ولا كلمة رحيمة.
بل جاءتني رسالة طويلة، رسالة حملت من القسوة ما لم تحمله سنوات حياتي كلها.
ما زلت أحفظها بلا شاشة، من ذاكرتي وحدها،

وصفتني فيها بأبشع ما يمكن أن يُقال لإنسان، كل حرف منها لا يزال ينزف داخلي حتى اليوم.
ما زلت أسمع صداها كلما أغمضت عيني في الليل. وما زالت تلاحقني كحكم نهائي لا استئناف فيه.

كنتُ أظن أنني أملك الوقت لأُصلح ما كُسر،
لكن الوقت أسرع من خطواتي.
كنتُ أظن أنني أُمسك بيدك،
فأفلتُها دون أن أشعر.
لم أقل يوما إنني خائف،
لكن الخوف كان يسكنني أكثر مما يسكنك.
واليوم، لم يبقى في يدي سوى صمتٌ ثقيل،
وحكاية صديق ضاعت منه الطريق.

لذلك ..
فإن نسيتَ كل شيء،
أتمنى ألا تنسى أنني آويتك حين لم يكن لك مأوى،
وأطعمتك وأنا لا أزال جائعا،
وأقرضتك وأنا محتاج،
وأشركتك أعيادي وأنا وحيد.

بتوقيع:
س. الغريق الذي ألقوا له حجرا بدل حبل النجاة ..

الثلاثاء، ١٦ سبتمبر ٢٠٢٥

الغربان التي لم تنسَ الطريق

مضت شهور طويلة.
السطح الذي كان يعج بالحياة صار صامتا.
لا نعيق، لا خفق أجنحة، لا نظرة جانبية من رأس مائل عند الحافة… لا شيء.
كأن السماء أغلقت بابها على عالم لم أعد جزءا منه.
كنت أفتح النافذة أحيانا، ثم أغلقها سريعا. كمن ينتظر شيئا يعلم أنه لن يأتي، لكنه لا يملك الشجاعة ليقطع الأمل.

بدأت أقنع نفسي أنني توهّمت.
أنهم طيور، ليسوا أصدقاء.
أنني، في عزلتي، أسقطت مشاعري على مخلوقات لا تملك القدرة على الرد.
وأن كل تلك الهدايا الصغيرة التي كانوا يتركونها… لم تكن حبا، بل مجرد تصرفات غريزية لمخلوقات تبحث عن البقاء.
أقنعت نفسي بكل شيء… حتى حدث شيء هذا الصباح.

----------

كانت شمس اليوم خجولة، والبرد قد بدأ يخف، ونافذتي نصف مفتوحة.
كنت أحتسي قهوتي ببطء،
ثم سمعته.
نعيق واحد.
من مكان بعيد، مألوف كصوت قلب قديم.
رفعت رأسي ببطء.
ظلّ أسود عبر السماء،
طائر حط على السطح، ثم انحنى برأسه بنفس الزاوية التي لم تغادر ذاكرتي.
كأن الزمن عاد.
الغربان عادت.

----------

وقفت مصدوما، لا أعلم ماذا أفعل.
هل أركض وأحضر الفول؟ هل أصفق لهم؟ هل أبكي؟
كل شيء في داخلي كان يهتف: "لقد عادوا"
لكنني لم أتحرك. بقيت واقفا، أراقبهم وهم يقفون بصمت

لا أعلم إن كانوا نفس الغربان، لكنهم يعرفون النافذة.
يعرفون أنني هنا، ما زلت، رغم كل شيء… في انتظارهم.
هل يمكن لغراب أن يعود؟
أن يتذكرك؟
أن يحملك معه عبر الفصول؟
الجواب الآن لا يحتاج إلى لغة. الغربان قالت كل شيء بصمتها.

----------

سأرحل يوما، ولن تراني الغربان مجددا، لكنها ستظل تحلق، وكأنها تترك لي رسالة:
"ربما نلتقي يوما ما، تحت سماء أخرى."
فالوداع ليس نهاية الحكايات،
بل فصل آخر ينتظر أن يُكتب.
وربما، في مكان لم أزره بعد،
سأرفع عيني،
فأجد غرابا مألوفا يحدق بي،
فأبتسم…
وأعلم أن الصداقة الحقيقية
تبقى للأبد.

من رسائل القراء

صديقي،
قرأت ما مررت به… ولم أعرف أين أضع وجهي من الخجل. أن يهددك أحدهم بالشرطة لأنك تركت له رسالة؟ أي سقوط هذا، أي درك من الانحطاط يمكن لإنسان أن يبلغه.

أكثر ما آلم في قصتك لم يكن تهديد الغريب لك … بل تواطؤ القريب، ذاك الذي شاركك سقفا واحدا، والذي كان من المفترض أن يكون ظهرك وسندك.

الخلافات مع الغرباء مفهومة، والأذى من الأعداء متوقع… لكن أن يتواطأ من أكل من مائدتك، وعاش تفاصيل حياتك، وشاركك ليلك ونهارك، فهذا ما يترك في القلب ندبة لا تُشفى.

يبدو أنك كنت أمام عصابة حقيقية. ولن أسميها إلا كذلك. كل واحد منهم لعب دوره: من همس في الأذن، ومن حمل الخنجر، ومن تظاهر بالبراءة. وأقسى ما في الأمر أن من كان يُفترض أن يكون ظهرك وسندك، اختار أن يقف في الصف الآخر، بل سمح أن يُستعمل اسمه ليُلوَّح في وجهك بالشرطة.
هذا ليس مجرد خذلان… هذا عار. عار على كل من رضي أن يكون جزءا من تلك المسرحية القذرة.
إن كنت لا زلت تشعر بالوجع اليوم، فاعلم أننا نشعر بالخجل بدلا منهم.,


----------

تعليق مني:
كنت قد وعدت القرّاء قبل شهور أنني لن أعود إلى تلك القصص القديمة. ظننت أن الزمن سيقوم بما قيل عنه دائما: يشفي، لكن يبدو أن الزمن لا يشفي… الزمن يمرّ فقط، ويترك الندبة كما هي.
اليوم أدركت أنني لا أستطيع أن أتظاهر بالنسيان أكثر. لم يعد ينفع أن أضع الغطاء على الجرح وأتظاهر أنه اندمل. اخترت أن أترك الجرح مفتوحا… أن أعيش معه، أن أرى وجهي فيه كل يوم، وأتقبّله كجزء مني حتى آخر الطريق.
ليست بطولة ولا شجاعة، بل استسلام نبيل: أن أقبل أن بعض الخيانات لا تُمحى، وبعض الأوجاع لا تُنسى… وإنما نعيشها إلى النهاية كرفيق لا يفارقنا.

الاثنين، ١٥ سبتمبر ٢٠٢٥

حكاية فراش

دعنا نعود إلى تلك الليلة… الليلة التي غادرت فيها المكان.


المقدّم:
لقد أخبرك بنفسه… أنه غيّر فراش الغرفة، كيف كان وقع تلك الكلمات؟

أنا (صمت طويل):
كطعنة باردة.
ذلك الفراش حمل جسدي لسنوات، كان شاهدا على غربتي ودموعي.

المقدّم:
وكيف كان الأمر حين علمت أنه لم يكتفِ بتغيير الفراش… بل صار ينام هو نفسه في الغرفة، وأدخل آخرين؟

أنا:
كان الأمر أسرع من أن يُصدّق ..
كان ذلك أشد قسوة من أي شتيمة ..

المقدّم (بصوت خافت):
أخبرني… كيف كان شعورك حين علمت أنه لم يكتفِ بتغيير الفراش، بل غيّر المفتاح أيضا؟

أنا (بهمس):
أن تغيّر مفتاح البيت بعد أيام من رحيل إنسان شاركك حياتك… ليس حرصا ولا نظاما.
إنه فعل لا إنساني، وخيانة للإنسان نفسه قبل أن تكون خيانة للصداقة.

المقدّم:
الناس في العادة، حتى حين يختلفون، يحتفظون بالباب مفتوحا قليلا… أو بالمفتاح القديم في درجٍ ما، كذكرى.

أنا (بصوت مبحوح):
حتى الآن أردد بيني وبين نفسي: يستحيل أن يكون هو من فعلها ..
لا يمكن أن يكون الإنسان الذي آواني سنين هو نفسه من غيّر القفل.
أرى ظلا ثالثا يبتسم في الخلفية.

المقدّم: هل سمعت الصوت وهو يُغلق الباب؟

أنا: سمعته… وما زال يتردّد داخلي.

المقدّم (بصوت هادئ متردد):
حين نتحدث عن الضياع، لا نعني الطرق التي لم نجدها على الخريطة… بل الطرق التي فقدناها في داخلنا.
أخبرني… كيف كان الأمر عندما لم يعد لديك وجهة؟

أنا:
كنت أتجوّل بين المدن كمن يبحث عن نفسه في الشوارع.
كنت أمشي بين الناس كمتشرّد، أجرّ حقيبتي الفارغة وأتظاهر أنني مسافر… بينما الحقيقة أنني منفيّ.

المقدّم:
ولأول مرة… وجدت نفسك في الشارع.
كيف يبدو ليل الشارع لمن كان يملك بيتا من قبل؟

أنا:
كان باردا… قاسيا.
تمدّدت على الرصيف، ورأيت السماء كأنها سقف مفتوح لا يحمي أحدا.
حينها عرفت أن النوم قد يكون خيانة للجسد… استسلاما حين تعجز عن المقاومة.

المقدّم (يهمس):
وهل بكيت؟

أنا (صمت طويل):
لم أستطع.
الدموع خانتني…

المقدّم:
هناك جراح لا تُشفى… وهناك ليال لا تُنسى.
لكن قل لي، حين حملت جسدك بين المدن، ماذا كنت تحمل معك أكثر: حقيبتك… أم جرحك؟

أنا:
الجرح.
الحقيبة كانت فارغة تقريبا، أما الجرح… فكان ممتلئا بي حتى آخر قطرة.

المقدّم: ما الذي كان أقسى عليك… فقدان المأوى؟ أم فقدان الثقة؟

أنا (صمت طويل): الثقة… كانت البيت الحقيقي.

المقدّم: حين جلست على الرصيف، هل كنت تفكر في الغد… أم كنت تحاول فقط النجاة من تلك الليلة؟

أنا: لم يكن هناك غد… كانت ليلة فقط. طويلة كالعمر.

المقدّم: وأنت تتنقل بين المدن… هل كنت تهرب منهم، أم تهرب من نفسك؟

أنا: من الاثنين… لكن نفسي لحقت بي.

المقدّم: ماذا يترك الضياع في قلب الإنسان… فراغا أم ندبة لا تزول؟

أنا: ندبة… تنزف لآخر العمر.


---

انتهى الحوار ..

الصديق (بصوت يختنق):
الذي أغلق الباب لم يكن أنا، بل نسخة مظلمة مني ..
واليوم… كلما وقفت أمام المرآة، أرى ملامح رجل غريب.
لا يشبه الذي كان مأوى وصديقا ذات يوم ..

مونيك… جارتي التي لن تتكرر

في مدينة الصويرة، حيث كانت الأيام تمشي على مهل، كانت هناك امرأة استثنائية تسكن بجواري.
مونيك… جارتي المسنّة، اللطيفة، الرائعة، التي لم تكن مجرد جارة، بل كانت قطعة من القلب.

عاشت طفولتها بين أزيز الحرب العالمية الأولى، ثم شبّت على رماد الحرب العالمية الثانية. ورغم أن العالم كان ينهار من حولها في تلك السنوات البعيدة، إلا أنها حملت في داخلها شيئا نادرا: هدوء الحكمة ودفء الإنسان.

كانت لها عادات يومية لا تتغير، كأنها طقوس سرية تحفظ بها إيقاع الحياة. كل صباح كانت تنهض ببطء، ثم تجلس تحت ضوء الشمس لتحتسي قهوتها. وكنتُ أنا أنزل عندها مرارا، نشارك الفنجان ونغرق في حديث طويل لا يعرف الملل. حديثها كان مثل نهر صافٍ: دافئ، ذكي، مليء بالحكايا القديمة، والضحكات التي تُطفئ ثقل الأيام.

حين رحلت قبل عام، وجدت نفسي أقف عند نعشها والدموع تخونني. لم يكن موتها خسارة جارة مسنّة، بل رحيل صديقة، ورفيقة، وذاكرة حيّة لزمن بكامله. كان وداعها مؤلما جدا.

ستبقى صورتها وهي تضحك، وتقول "اشرب قهوتك قبل أن تبرد" محفورة في داخلي كوشم لا يُمحى.

رحلت مونيك، لكن ما زلتُ أسمع وقع خطواتها في الممر، وما زال فنجان قهوتها ينتظرني على الطاولة.

الأحد، ١٤ سبتمبر ٢٠٢٥

الخاتمة

وسألت نفسي بعد كل هذا:
هل غفرت له؟
صمت طويل، يقطعه وجع أثقل من الكلمات ..

سنتان كاملتان، وما زال الأذى يقيم في داخلي.
الزمن لم يخفف شيئا، بل لا يزال الألم كضيف ثقيل يرفض المغادرة.

كل مشهد يعيدني إلى تلك الحقيقة: أنني كنت أستأمنه على نفسي، بينما كان يحيك خيط الخديعة بمهارة.
الغدر لم يكن عابرا. لقد جاء مخططا له مع عدوي الوحيد في هذه الحياة؛ ذلك الذي آذاني من قبل وشهّر بي.
أن يلتقي الغدر مع العداوة في نفس اللحظة… كان ذلك طعنة مضاعفة لا يشفى منها صدر.

جاء الوداع على هيئة شتيمة.
كلمة أخيرة لن أنساها بقية عمري.
لتبقى آخر صورة منه هي أقبح ما يمكن أن يُقال لإنسان.

لا اعتذار في هذا العالم سيكفي.
لا مال، ولا كلمة، ولا زمن قادر أن يردّ ما سُلب.

ذلك الأذى سيبقى ما حييت، وسأحمله معي حتى لو كان هناك حياة آخرى بعد الموت.
وحتى لو غفر الله للشيطان، فإن هذا الوجع لن يعرف طريقه للغفران.

لأن هذا الصديق لم يكتفِ بالغذر، بل آذاني لشهور طويلة … وشوّه صورتي ..
كل هذا فقط ليجد لنفسه مكانا إلى جانب الرفيق الجديد، على مائدة همبرغر في مطعم ما في الدار البيضاء، ورحلة قصيرة يظنها خلاصا. هكذا كان يصوّر "التجديد" و"التغيير"، وكنت أنا الثمن الذي دُفع ليبرهن على ولاء جديد.

لذلك، حتى وإن راودني ميل للغفران، رحمة بضعفه الذي عشته بعيني لسنوات، إلا أن ما فعله أكبر من أن يُمحى أو يغفر.
الجرح باق هناك، يقطر ببطء، يذكّرني أن بعض الخيانات ستُرافقنا حتى النهاية.

الانهيار الذي لم يره أحد

اليوم أعاد لي Google Photos صورا من سنتين.
صور بدت عادية في ظاهرها، لكنها حملت بين طياتها جروحا لم تلتئم.
ما زلت أتألم وأنا أنظر إليها، كأن ما جرى حدث البارحة.

أشارككم القصة، التي كتبت عنها مرارا من قبل، لكنني لأول مرة سأرويها كما عشتها: قصة مصوّرة عن غدر خالص من صديق، وعن الدرس الأكبر الذي خرجت به من تلك التجربة…… أن أقسى الأذى لا يأتي من الغرباء، بل من الذين جلسوا إلى جوارنا على الطاولة ذاتها، وتقاسموا معنا الخبز، ثم طعنونا ونحن ما زلنا نمسح فتات موائدهم.

بعد شهور من المراوغة والكذب والأذى، وجدت نفسي أمام خيانة لا تشبه سواها: شخصان اجتمعا عليّ في لحظة واحدة.
الأول شريك سكن عرفتُه لسنوات، شاركته تفاصيل الأيام، والثاني شخص قديم، ذاك الذي حمل لي الأذى بلا سبب وكان العدو الوحيد في حياتي.

كنت أنا وأخي في الدار البيضاء ننتظره لرحلة قصيرة، أوهمنا بها وكأنها عابرة.
لكن بعد ساعات من الانتظار، انكشف ما حاول إخفاءه: لم يكن قريبا كما ادّعى، بل كان في بلد بعيد… مع العدو الوحيد الذي تمنيت يوما أن لا يقف معه ضدي.
كان وقع الخيانة أثقل من أن يُحتمل. لم أبكِ، لم أصرخ، لكن شيئا انطفأ داخلي إلى الأبد، كأن حجرا سقط في أعماقي وما زالت دوائره تتسع حتى الآن.
ومن هناك، بدأت رحلتي نحو الصويرة… طريق طويل حملني إلى الدرس الأكبر في حياتي.


1
آخر مرة في المكان الذي كنت أنام فيه…  رتبته كما لو أنني أودّعه، جمعت التراب الذي تساقط بعد زلزال كان قد ضرب منطقة مجاورة، مسحت الغبار ثم أغلقت الباب وغادرت…

آخر مرة في المكان الذي كنت أنام فيه… رتبته كما لو أنني أودّعه، جمعت التراب الذي تساقط بعد زلزال كان قد ضرب منطقة مجاورة، مسحت الغبار ثم أغلقت الباب وغادرت…

2
كل ما كنت أملك في ذلك السكن… تركته خلفي. الأغراض التي جمعتها على مدار السنوات، وكل ما استثمرت فيه ظنا أنه سيكون مكاني الآمن. لم أحمل معي سوى بضع ملابس، كانت لي وكانت رمزا في ذلك البيت. ثم غادرت… وكأنني أترك عمرا كاملا امتد لسنوات.

كل ما كنت أملك في ذلك السكن… تركته خلفي. الأغراض التي جمعتها على مدار السنوات، وكل ما استثمرت فيه ظنا أنه سيكون مكاني الآمن. لم أحمل معي سوى بضع ملابس، كانت لي وكانت رمزا في ذلك البيت. ثم غادرت… وكأنني أترك عمرا كاملا امتد لسنوات.

3
أغلى ما كان بين يدي في تلك اللحظة هو جواز سفري. كنت قد بدأت أفكر جديًّا في الانتقال إلى بلاد جديدة، هربا من الأذى الذي ألحقه بي ذلك الصديق… أذى لم يعد في طاقتي احتماله. وبينما كنت أتألم وأتخبط في ضياعٍ طويل، كان هو يلتقي من آذاني سابقا، يتقرب منه ويزداد قوة به… كأن وجوده إلى جانبه صار السند الذي يشد أزره ضدي.

أغلى ما كان بين يدي في تلك اللحظة هو جواز سفري. كنت قد بدأت أفكر جديًّا في الانتقال إلى بلاد جديدة، هربا من الأذى الذي ألحقه بي ذلك الصديق… أذى لم يعد في طاقتي احتماله. وبينما كنت أتألم وأتخبط في ضياعٍ طويل، كان هو يلتقي من آذاني سابقا، يتقرب منه ويزداد قوة به… كأن وجوده إلى جانبه صار السند الذي يشد أزره ضدي.

4
بعد اكتشاف الخديعة كان الألم أثقل من أن يُحتمل. حينها قررت أن أكتب إلى ذلك الشخص، العدو الوحيد في هذه الحياة، رسالة راقية أخيرة… closure. قلت له إنني سامحته على ما فعل، رغم أنه لم يعتذر يوما، وفي الوقت نفسه واجهته بخيوط الخداع التي اكتشفتها، وأخبرته أنني اخترت أن أبتعد عن شريك السكن الذي انحاز إليه.
بعدها لم يكن لدي مكان أذهب إليه… كل الأبواب كانت موصدة. كنت أعرف أن الطريق هذه المرة لي وحدي، طريق مظلم وضائع، أمشيه متعثرا بخطوات بطيئة، ولا يرافقني فيه سوى وجع صامت لا يسمعه أحد.

بعد اكتشاف الخديعة كان الألم أثقل من أن يُحتمل. حينها قررت أن أكتب إلى ذلك الشخص، العدو الوحيد في هذه الحياة، رسالة راقية أخيرة… closure. قلت له إنني سامحته على ما فعل، رغم أنه لم يعتذر يوما، وفي الوقت نفسه واجهته بخيوط الخداع التي اكتشفتها، وأخبرته أنني اخترت أن أبتعد عن شريك السكن الذي انحاز إليه.
بعدها لم يكن لدي مكان أذهب إليه… كل الأبواب كانت موصدة. كنت أعرف أن الطريق هذه المرة لي وحدي، طريق مظلم وضائع، أمشيه متعثرا بخطوات بطيئة، ولا يرافقني فيه سوى وجع صامت لا يسمعه أحد.

5
كان هناك صديق آخر لهما… وقلت في نفسي ربما يكون هو العقل الذي سيضع حدا لكل هذا العبث. تركت له رسالة عابرة في أنستغرام، كنت أراه آخر خيط أتشبث به لأوقف هذا التلاعب، لأنه يعرفهما معا. لكن ما فعله كان تصرفا طفوليا يعكس لؤم وخبث ذلك الإنسان: راسل شريك السكن، مدّعيا أنني أهدده… وأنني أتحرش به. حينها أدركت حجم السذاجة التي كنت أعيشها. كنت أظن أنني بين أصدقاء، فإذا بي أكتشف أنني وسط عصابة، شبكة من أناس حقيرين لا يعرفون معنى الشرف أو المبدأ. ربما كنت أعيش في عالم آخر… عالم الكتب والروايات، حيث الصداقة قيمة، والوفاء قاعدة لا استثناء. لكنني وجدت نفسي فجأة في عالم موازٍ، لا يشبه ما عرفته يوما، عالم بلا قيم وبلا صدق.

كان هناك صديق آخر لهما… وقلت في نفسي ربما يكون هو العقل الذي سيضع حدا لكل هذا العبث. تركت له رسالة عابرة في أنستغرام، كنت أراه آخر خيط أتشبث به لأوقف هذا التلاعب، لأنه يعرفهما معا. لكن ما فعله كان تصرفا طفوليا يعكس لؤم وخبث ذلك الإنسان: راسل شريك السكن، مدّعيا أنني أهدده… وأنني أتحرش به. حينها أدركت حجم السذاجة التي كنت أعيشها. كنت أظن أنني بين أصدقاء، فإذا بي أكتشف أنني وسط عصابة، شبكة من أناس حقيرين لا يعرفون معنى الشرف أو المبدأ. ربما كنت أعيش في عالم آخر… عالم الكتب والروايات، حيث الصداقة قيمة، والوفاء قاعدة لا استثناء. لكنني وجدت نفسي فجأة في عالم موازٍ، لا يشبه ما عرفته يوما، عالم بلا قيم وبلا صدق.

6
 هذه الرسائل الاخيرة التي تقطر استقواء، تكشف كل شيء. الألم لم يكن في العبارة وحدها، بل في أن تصدر من شخص كنت له سندًا حين لم يكن له أحد. من أعددت له الطعام ورتبت له البيت صار اليوم يشتمك بعدما وجد من يقف بجانبه. لحظتها شعرت أنني أمام شخص لم أعد أعرفه،
لكن كلمته تلك، كانت الشرارة لما سيأتي لاحقا ..

هذه الرسائل الاخيرة التي تقطر استقواء، تكشف كل شيء. الألم لم يكن في العبارة وحدها، بل في أن تصدر من شخص كنت له سندًا حين لم يكن له أحد. من أعددت له الطعام ورتبت له البيت صار اليوم يشتمك بعدما وجد من يقف بجانبه. لحظتها شعرت أنني أمام شخص لم أعد أعرفه،
لكن كلمته تلك، كانت الشرارة لما سيأتي لاحقا ..

7
١٠ سبتمبر  -  حرفيا كان هذا آخر مبلغ في حسابي. كنت ذاهبا للمواجهة، لقاء أردت أن يكون خاتمة، أضع فيه نهاية لهما وأرحل. اشتريت للعدو هدية بآخر ما تبقى لدي من مال: عطر من Guerlain. ومعه علبة شوكولاتة وأشياء أخرى.
في داخلي كنت عازما أن أودّعهما إلى الأبد، وأن لا أرى شريك السكن لبقية حياتي…  هذا قبل أن يطلق شتيمته الخالدة، الشرارة التي أشعلت كل ما جاء بعدها. لكنني كنت فقط أمنح نفسي وهما بالكرامة والوداع الراقي.

١٠ سبتمبر - حرفيا كان هذا آخر مبلغ في حسابي. كنت ذاهبا للمواجهة، لقاء أردت أن يكون خاتمة، أضع فيه نهاية لهما وأرحل. اشتريت للعدو هدية بآخر ما تبقى لدي من مال: عطر من Guerlain. ومعه علبة شوكولاتة وأشياء أخرى.
في داخلي كنت عازما أن أودّعهما إلى الأبد، وأن لا أرى شريك السكن لبقية حياتي… هذا قبل أن يطلق شتيمته الخالدة، الشرارة التي أشعلت كل ما جاء بعدها. لكنني كنت فقط أمنح نفسي وهما بالكرامة والوداع الراقي.

8
كنت عازما أن أغادر في صمت، أن أطوي الصفحة الأخيرة بهدوء. لكن النهاية جاءت مختلفة كليا… لم أعرف ما الذي دار بينهم في تلك الليلة، ولا ما الذي قيل عني، كل ما وصلني كان شتيمة في الصباح التالي، بينما كنت أحمل أغراضي لأغادر البيت والمدينة التي عشت فيها لسنوات. لم يكن ذلك صدفة، ولا مجرد انفعال عابر. كان واضحا أن شيئا خفيا دفع الأمور إلى هذا المنحدر… وكأن يدا في الظل كانت تحرك الخيوط لتضمن أن الرحيل لن يكون هادئا أبدا. خيطا طويلا من الخبث كان يُحاك في الخفاء.

كنت عازما أن أغادر في صمت، أن أطوي الصفحة الأخيرة بهدوء. لكن النهاية جاءت مختلفة كليا… لم أعرف ما الذي دار بينهم في تلك الليلة، ولا ما الذي قيل عني، كل ما وصلني كان شتيمة في الصباح التالي، بينما كنت أحمل أغراضي لأغادر البيت والمدينة التي عشت فيها لسنوات. لم يكن ذلك صدفة، ولا مجرد انفعال عابر. كان واضحا أن شيئا خفيا دفع الأمور إلى هذا المنحدر… وكأن يدا في الظل كانت تحرك الخيوط لتضمن أن الرحيل لن يكون هادئا أبدا. خيطا طويلا من الخبث كان يُحاك في الخفاء.

9
تحت وطأة الألم، خاصة بعد شهور من الأذى والتلاعب، وجدت نفسي في العراء. كان أخي يرافقني، لم يكن يعلم شيئا مما يجري… هذه الصورة تظهر الضياع الذي كنت أحاول إخفاءه عنه، وكنت أدير وجهي حتى لا تخونني عيناي .. كنت أبتسم له… بينما في داخلي كنت أشيّع ما تبقّى مني.

تحت وطأة الألم، خاصة بعد شهور من الأذى والتلاعب، وجدت نفسي في العراء. كان أخي يرافقني، لم يكن يعلم شيئا مما يجري… هذه الصورة تظهر الضياع الذي كنت أحاول إخفاءه عنه، وكنت أدير وجهي حتى لا تخونني عيناي .. كنت أبتسم له… بينما في داخلي كنت أشيّع ما تبقّى مني.

10
في منطقة تدعى سيدي كاوكي، نواحي مدينة الصويرة، لم أكن قد استأجرت سكنا بعد. كنت ضعيفا لدرجة أنني لم أستطع الوقوف…  قلت لأخي إنني أعاني من دوار، لكن الحقيقة أنني كنت أعيش صدمة لا توصف: أن الشخص الذي استنجدت به لم يكن قريبا كما زعم، بل في بلاد بعيدة… يقف مع من كان قد آذاني سابقا، ووعدني أنه لن يكون أبدا في صفه.

في منطقة تدعى سيدي كاوكي، نواحي مدينة الصويرة، لم أكن قد استأجرت سكنا بعد. كنت ضعيفا لدرجة أنني لم أستطع الوقوف… قلت لأخي إنني أعاني من دوار، لكن الحقيقة أنني كنت أعيش صدمة لا توصف: أن الشخص الذي استنجدت به لم يكن قريبا كما زعم، بل في بلاد بعيدة… يقف مع من كان قد آذاني سابقا، ووعدني أنه لن يكون أبدا في صفه.

11
ورقة الطبيب التي شخصت حالتي بوضوح: صدمة نفسية. خرجت منها بدواء لا يُكتب إلا للمرضى النفسيين… وكان ذلك أشد ما أوجعني. لم أكن أتصور أن خيانة أشخاص عشت معهم يوما، وأمّنتهم على حياتي، ستتركني أحمل وصفة كهذه بدلا من ذكريات.

ورقة الطبيب التي شخصت حالتي بوضوح: صدمة نفسية. خرجت منها بدواء لا يُكتب إلا للمرضى النفسيين… وكان ذلك أشد ما أوجعني. لم أكن أتصور أن خيانة أشخاص عشت معهم يوما، وأمّنتهم على حياتي، ستتركني أحمل وصفة كهذه بدلا من ذكريات.

12
لم أكن قد تناولت شيئا طوال اليوم، ومع ذلك كان القيء غزيرا، غريبا، لم أعرفه من قبل. لم أفهم حينها ما يحدث، لم أستوعب أن الصدمة قد تتمكن من الجسد إلى هذا الحد. في الغد فقط، حين جلست أمام الطبيب، أعطاني الاسم: صدمة نفسية.

لم أكن قد تناولت شيئا طوال اليوم، ومع ذلك كان القيء غزيرا، غريبا، لم أعرفه من قبل. لم أفهم حينها ما يحدث، لم أستوعب أن الصدمة قد تتمكن من الجسد إلى هذا الحد. في الغد فقط، حين جلست أمام الطبيب، أعطاني الاسم: صدمة نفسية.

13
في الأيام التالية، لم أعرف للنوم طريقا إلا عبر تلك الحبوب

في الأيام التالية، لم أعرف للنوم طريقا إلا عبر تلك الحبوب

14
حين أخبرته أن الطبيب شخص حالتي بصدمة، وأعطاني دواء نفسيّا، رد علي: "كنت مريضا نفسيا قبل أن أعرفك." جملة واحدة، قالت كل شيء… لم تكن مجرد قسوة، بل إعداما باردا لسنوات من الثقة، وفضحا لوجه آخر لم أتخيل أني أجاوره يوما. تلك اللحظة كانت ذروة الأذى… حيث اجتمع الغدر والشماتة والاستقواء في جملة واحدة لا تُنسى.

حين أخبرته أن الطبيب شخص حالتي بصدمة، وأعطاني دواء نفسيّا، رد علي: "كنت مريضا نفسيا قبل أن أعرفك." جملة واحدة، قالت كل شيء… لم تكن مجرد قسوة، بل إعداما باردا لسنوات من الثقة، وفضحا لوجه آخر لم أتخيل أني أجاوره يوما. تلك اللحظة كانت ذروة الأذى… حيث اجتمع الغدر والشماتة والاستقواء في جملة واحدة لا تُنسى.

15
كنت في فندق مع أخي، ظللت مستيقظا لليلة كاملة، لم يغمض لي جفن. الغرفة مظلمة، التلفاز يملأ الصمت بأصوات بعيدة،  كنت أسترجع كل ما حدث، حجم الأذى، وعمق الخديعة التي لم أتوقعها ممن ظننتهم أقرب الناس.

كنت في فندق مع أخي، ظللت مستيقظا لليلة كاملة، لم يغمض لي جفن. الغرفة مظلمة، التلفاز يملأ الصمت بأصوات بعيدة، كنت أسترجع كل ما حدث، حجم الأذى، وعمق الخديعة التي لم أتوقعها ممن ظننتهم أقرب الناس.

16
وجدت نفسي فجأة مضطرا للبحث عن حلول بديلة، أن أوفر سكنا بأي طريقة للأيام المقبلة حتى نهاية الشهر. لم يكن في الأمر خيارا ولا ترفا، كان مجرد محاولة يائسة لأمسك بخيط أمان قصير، أؤجل به الانهيار الكامل. كانت الرسائل التي أرسلها في تلك اللحظة تشبه استغاثة أكثر مما تشبه تفاوضا… بحثٌ عن سقفٍ مؤقت.

وجدت نفسي فجأة مضطرا للبحث عن حلول بديلة، أن أوفر سكنا بأي طريقة للأيام المقبلة حتى نهاية الشهر. لم يكن في الأمر خيارا ولا ترفا، كان مجرد محاولة يائسة لأمسك بخيط أمان قصير، أؤجل به الانهيار الكامل. كانت الرسائل التي أرسلها في تلك اللحظة تشبه استغاثة أكثر مما تشبه تفاوضا… بحثٌ عن سقفٍ مؤقت.

17
حاولت أن أبدأ من جديد، شيئا فشيئا… حتى الطعام كان عودتي الأولى إلى الإحساس بالحياة. الألم كان حاضرا في كل تفصيلة، لأن الخيانة لم تكن عابرة، بل استقواءً مع عدو قديم. لكنني في تلك اللحظة اتخذت قراري: أن أمضي قُدما، وأترك للحياة وحدها أن تقتص لي بطريقتها.

حاولت أن أبدأ من جديد، شيئا فشيئا… حتى الطعام كان عودتي الأولى إلى الإحساس بالحياة. الألم كان حاضرا في كل تفصيلة، لأن الخيانة لم تكن عابرة، بل استقواءً مع عدو قديم. لكنني في تلك اللحظة اتخذت قراري: أن أمضي قُدما، وأترك للحياة وحدها أن تقتص لي بطريقتها.

18
سكنت هنا سنة كاملة، أبحث بين الجدران عن بعض الطمأنينة، عن مكان يعيد لي الإحساس أن لي بيتا من جديد. لكن حين جفّت مواردي، وجدت نفسي مضطرا أن أتركها كما جئت إليها… بلا وداع، بلا استعداد، فقط لأن المال لم يعد يكفي.

سكنت هنا سنة كاملة، أبحث بين الجدران عن بعض الطمأنينة، عن مكان يعيد لي الإحساس أن لي بيتا من جديد. لكن حين جفّت مواردي، وجدت نفسي مضطرا أن أتركها كما جئت إليها… بلا وداع، بلا استعداد، فقط لأن المال لم يعد يكفي.

مذكّرات نوماد - 1

الرحّالة الرقمي قد يغيّر المدن واللغات والمقاهي، لكنه لا يغيّر شيئا واحدا: حقيبته.

في كل شقة جديدة، أول ما يصل هو حقيبتي، ثم أنا. أضعها بجانب السرير وكأنها كلب حراسة. أحيانا أنام وأنا ألمس مقبضها لأطمئن أنها لم تهرب. لقد صارت أقرب إلى شريك حياة: تحمل أسراري، ثيابي، وأحلامي الصغيرة.

- في منتصف الليل، أتعثر بها وألعن السفر كله.
- في الصباح، أجلس على حافتها لأرتدي حذائي كأنها كرسي متنقّل.

النوم بجانب حقيبتي يذكّرني أنني لا أملك بيتا فعليا. حقيبة واحدة تختصر حياتي: إن سُرقت انتهيت، وإن تمزقت ضعت. كأن وجودي كله مرهون بسحّاب بلاستيكي.

قد يظن الناس أن الحرية هي أن تعيش بلا قيود. لكن الحقيقة أنني أعيش مربوطا بحقيبة واحدة، أجرّها خلفي من مدينة إلى أخرى.

في الصور على إنستغرام، يبدو النوماد الرقمي جالسا في مقهى أنيق، أمامه فنجان قهوة، وعلى الطاولة جهاز ماكبوك يلمع تحت ضوء الشمس. لكن خلف الكواليس؟ إنها معركة بقاء ضد الضوضاء، الكراسي الخشبية، وموسيقى لا ترحم.

تجلس وتفتح جهازك بثقة. في اللحظة نفسها يبدأ المقهى تشغيل قائمة موسيقية غريبة: مزيج بين ديسكو السبعينات وأناشيد عيد الميلاد. وبينما تحاول كتابة كود نظيف، يقرع في أذنك صوت مغنّ يصرخ بكلمة لا-لا-لا بلا نهاية.

- على يمينك أمّ تتحدث في مكالمة فيديو طويلة عن وصفات الكيك.
- على يسارك مجموعة شباب يضحكون على فيديوهات تيك توك.
- والواي فاي؟ يتنفس ببطء كعجوز على جهاز أوكسجين.

المقهى الذي جئت إليه للعمل يتحوّل إلى اختبار تحمّل: أيهما ينهار أولا؟ بطارية حاسوبك أم أعصابك. وحين تنتهي ساعاتك وتغلق الجهاز، تكتشف أنك كتبت سطرا واحدا فقط، هو:

`// TODO: الهروب من هذا الجحيم`.

السبت، ١٣ سبتمبر ٢٠٢٥

حين كنت غريبا في وطني

قبل سنة بالضبط، عدت إلى المغرب ..
كما يعود الغريب إلى بلاده خالي اليدين.

لم يكن معي شيء،
لا بيت أعود إليه،
ولا غرفة أُغلق بابها خلفي،
ولا حتى رقم واحد في هاتفي يمكنني أن أضغط عليه طلبا للمساعدة.
كل ما كان بحوزتي حقيبة صغيرة،
وحياة انزلقت من بين أصابعي،
دون أن أجد لها موطئا.

حاولت أن أطرق باب والدي في وجدة،
لكن المسافة بيني وبينهم لم تكن مسافة جغرافيا
بقدر ما كانت مسافة لا جسر لها.

كنت أتنقل بحقيبتي من مكان إلى آخر.
كأنني أجرّ بيتي الوحيد خلفي ..

في المحطات كنت أجلس على الكراسي الباردة،
وأراقب الناس يحملون أكياسهم، يضحكون،
ينادون بعضهم بالأسماء.

كنتُ غريبا بينهم،
وجهي غير مألوف ..
وصوتي لا يجيب عليه أحد.

ثم سمعت عن سكن رخيص في البادية
في نواحي مدينة الرباط، قرب بحيرة مهجورة.

خمسون درهما لليوم، بدا أنه مبلغ يمكن احتماله.
اتفقت مع صاحبه أن أدفع خمسة أيام،
وأؤجل الباقي إلى وقت الخروج.

دخلت المكان وأنا أحمل خيطا رفيعا من الأمل.
المكان بدا جميلا من الخارج،
لكن الداخل كان خرابا:
جدران متعفنة،
أرض ملوثة،
هواء خانق.
لم يكن ملجأ،
كان طردا جديدا من الحياة.

كنت أستيقظ كل ساعة،
أتلمس الحقيبة بجانبي،
لم أحتمل البقاء هناك سوى ليلة واحدة.

في الصباح قطعت النهر عائدا إلى العاصمة.
ماء البحيرة كان هادئا،
بينما داخلي يغلي بالخذلان.

على الضفة الأخرى،
رأيت الناس يمرّون إلى أعمالهم،
يحملون الخبز الساخن ويتبادلون كلمات بسيطة عن يوم جديد.

أما أنا، فكنت أعبر بينهم كغريب.
كأنني ظلّ فقد صاحبه.

تذكرت يومها أنني كنت قد بنيت سكنا مع أحدهم،
كنت أظنه الملجأ الأخير.
حسبته البيت الذي سيفتح ذراعيه مهما عدت مثقّلا بالهزائم.

لكن ما إن خرجت ذات يوم مضطرا،
مثقلا بالخذلان،
وما إن ابتعدت خطوات قليلة،
حتى غيّروا المفتاح،
وأغلقوا الباب كأنني لم أكن سوى خطأ يجب محوه.

ذلك المشهد ظلّ يلاحقني،
ويذكّرني أن البيوت قد تخون مثل البشر،

ما يجرح الروح لم يكن الغربة في المدن،
بل الغربة في العيون التي عرفتها يوما،
وفي الأبواب التي أغلقها من وثقنا بهم ذات شتاء،
بيد من كنت تظن أنهم أهلك.

أسما لمنور - وقتاش

شارة مسلسل بنات العساس - مسلسل مغربي

youtube

الجمعة، ١٢ سبتمبر ٢٠٢٥

حين نصنع الضوء لغيرنا

حين نصنع الضوء لغيرنا، نبدو أقوياء من الخارج، لكن الحقيقة أننا في أعماقنا منهكون. نتنازل عن أحلامنا ونمدها للآخرين، ثم نقف بعيدا نراقبهم وهم يمضون في طريقٍ لم نجرؤ نحن أن نكمله.

أحيانا حين نشعر أننا ضعفاء، أو أن الطريق طويل أكثر مما نحتمل، لا نتجه إلى الأمام، بل ندفع من حولنا ليمضوا.

قد نفعل ذلك لأن الحب يغلبنا، فنراهم أقدر منا على الحلم، فنؤمن بهم أكثر مما نؤمن بأنفسنا. وقد يكون خوفا من أن نحاول فننكسر، فنختبئ خلف نجاحاتهم. وأحيانا يكون بحثا يائسا عن معنى، أن ينجح واحد من قربنا فيُقنعنا أن الحلم ممكن، حتى لو لم يكن من نصيبنا.

أتذكر شخصا عشت معه سنوات. كان دائما يدفع من حوله، يشجعهم، ويرفعهم للأمام، كأن نجاح الآخرين هو المسرح الوحيد الذي يسمح له بالتصفيق. لم يكن يبحث عن الصف الأول، بل كان يرضى أن يضع غيره هناك ويكتفي بالظل. كنت أراه يفرح لنجاحهم، لكن خلف فرحه كان يطل سؤال صامت من عينيه: هل أستحق أنا أيضا أن أحاول؟

لا أدري إن كان ما كان يفعله نبلا. فأن نصنع أبطالا من حولنا قد يكون أجمل ما فينا ..

و ما يحز في النفس أكثر أن ذلك الشخص، الذي أمضى عمره يرفع غيره، حين جاء دوره وسقط، لم يلتفت إليه أحد.
كان وحيدا، سقط في صمت، فيما الذين صنع منهم أبطالا مضوا بعيدا منشغلين بأضوائهم.

ظلّت صورته تطاردني، لكن لم تكن وحدها.
تذكرت كل من مرّوا بحياتي، يوم تمنيت لهم ما تمنيت لنفسي، ورغبت أن يحققوا ما لم أحققه أنا.
ومع ذلك، ظلّ المشهد واحدا: الذين صنعت لهم الضوء مضوا في طريقهم، بينما بقيت أنا في الظل، أحمل قنديلي المطفأ ودمعة لا تجف.

عن لطفٍ عابر

في الأمس، وأنا أحمل أكياس التسوق بتعب واضح، تقدّم غريب لم أعرف اسمه، ابتسم ومدّ يده ليساعدني. لم يكن الأمر كبيرا، لكنه جعل الزحام أخف والنهار أبسط.
تذكرت أن الرقي لا يختفي، هو فقط ينتظر لحظة ليطلّ علينا من قلب إنسان عابر.

بمجرد إنتهاء المطر، ستصبح المظلة عبءا على الجميع
وجبة في الخارج، على سبيل التغيير

وجبة في الخارج، على سبيل التغيير

الخميس، ١١ سبتمبر ٢٠٢٥

لا أحد يتذكر يدًا امتدت لتمنحه ظلًا، حين تعود الشمس مشرقة

الأربعاء، ١٠ سبتمبر ٢٠٢٥

في وداع ديمة

يبدو أن اكتئاب الخريف قرر أن يبدأ من هنا… 🍂

ما لا ينسى في لحظات كهذه، أن هناك شخصا كان دائما يسأل: ما رأيك في كذا؟
كنا نبتسم لذكاء السؤال، لأنه لم يكن يفرض رأيا مباشرا، بل يترك الحديث ينزلق إلى تيارات أخرى لم نكن نعرف أنها موجودة ..

الأحاديث الجانبية معه كانت تتحوّل إلى أفكار وأحيانا محتوى للنشرة السرية ..
ومن ينسى مسابقة يوم التأسيس؟ كنا مستعدين لنكتب التاريخ كخاسرين، حتى جاء الهتاف في الساعات الأخيرة وجرّنا من الخسارة إلى الفوز ..

وكيف ننسى ذلك الصوت الدافئ في كل خطاب أو إلقاء، وذلك الحضور الذي يترك أثره في القلب؟

كل ما يمكن قوله هو ما لخّصه بيتر ستروبل:
الإرث ليس أن تترك شيئا للناس، بل أن تترك شيئا فيهم.

Minimalism: A Documentary About the Important Things

شاهدت فيديو عن شخص يعدّ أغراضه ويحسبها… ضحكت، فأنا أفعل ذلك منذ سنين بلا اسم ولا نظرية. أشيائي تُحصى على أصابع اليد، لكنها تمنحني راحة أكبر من كل فوضى يفاخر بها الآخرون.

youtube

الثلاثاء، ٩ سبتمبر ٢٠٢٥

أنقاض داخلية

لم يكن الغريب وحده من طرق الباب… كنتُ أنا من فتح له.

في تلك الليلة، حين فرغ المنزل، أدركت أنني لم أخسر صديقا… بل فقدت الإنسان بداخلي ..
حتى رائحة القهوة التي كانت يوما وعدا بالدفء، انقلبت إلى مرارة تحرق الحلق.

البيوت تُبنى بالحجارة، نعم… لكن الهدم لا يحتاج سوى كلمة.
وقد قلتها.

كلمة واحدة، كانت كافية ليسقط كل شيء.
ومنذ ذلك اليوم، لا أدخل بيتا جديدا إلا وأشعر بأنقاض البيت القديم داخلي.
أنقاض لا يراها أحد… لكنها ما زالت تسكنني.

اغفر لي أو لا تغفر… لكن اذكرني يوما كإنسان ضعيف، لا كخائن.

بقلم س.

Back to Black - Amy Winehouse

youtube

اليوم متعب

الكلمات تختبئ بعيدا عني، والصفحة البيضاء تكتفي بالتحديق،
أصدق ما أستطيع قوله هو أنني مرهق، وهذا يكفي،
الغد يحمل كلماته، واليوم يكفيني أن أستريح 🍁

الاثنين، ٨ سبتمبر ٢٠٢٥

العدد 22

طرحت ديمة مجموعة أسئلة🍃، فاخترت منها ما استطعت وأجبت عليها. وهذه كانت مشاركتي:

أفضل عادة اكتسبتها هالسنة؟

تحويل الهاتف إلى وضع الطيران أغلب أوقات اليوم .. (أفضل اختراع بعد القهوة ..)
تذكير بسيط بأن العالم لن ينهار إن تأخرت في الرد، وبأن الإنسان ليس قاعة طوارئ مفتوحة 24/7

أفضل قرار اتخذته؟

أن أدعو والدتي لتعيش معي، بعد سنوات طويلة من العيش مع الغرباء ..
لم أعد أبحث عن الأمان في المدن والصداقات العابرة ، وجدته في حب والدتي، الذي لم تقله يوما بالكلمات، لكن قالته ألف مرة بالأفعال والنظرات ..

كلمة أو نصيحة سمعتها هالسنة ولسى ترّن في بالك؟

ليس كل خذلان بحاجة إلى توضيح .. أن أتجاوز، وأتظاهر بعدم الفهم ..
لأنني في النهاية لا أريد أن أنتصر… بل أن أنجو ..

موقف مضحك ماتنساه صار لك هالسنة؟

في أحد فنادق الرياض، استيقظت فجرا على دوي صفارات إنذار، ظننته حريقا أو زلزالا صغيرا، قفزت بحثا عن جواز سفري وحذائي، وقبل أن أرفع السماعة .. سمعت صوت الموظف على الطرف الآخر يقول بهدوء بارد:

"نحن آسفين، كان اختبار للطوارئ… شغلناه بالغلط."

لم أعرف هل أضحك… أم أطالب بتعويض عن روحي التي كادت تغادر دون إذن ..

أكثر إنجاز فخور فيه؟

أن علامة حقوق الملكية الفكرية والأدبية © كانت مجرد زينة وعنصر تجميلي في المنصة ..

أفضل تجربة خضتها هذي السنة؟

1) رحلة "شتاء ثمانية"

رحلة عن شعور نادر بالألفة، عن المواقف الصغيرة التي لا تنسى .. من ضياع بطاقتي البنكية، إلى ضحكة صادقة على فطور مشترك .. ومواقف جعلتني أشعر أنني وسط غرباء يشبهونني كثيرا ..

2) زيارة محمود في منزله، واللقاء بالصغيرة أمل

حملتها بين يدي، لأجرب كيف يشعر الإنسان حين لا يحتاج للكلمات .. حين يكون البكاء كافيا، والتعب أو الجوع لا يحتاجان شرحا ..

أفضل اكتشافات 2025 حتى الآن؟

ليس تطبيقا، وإنما مقهى صغير في زقاق قديم، لا يحمل لافتة،
مكان أعود إليه كلما ضاق بي العالم، أو لأهرب من السؤال الأبدي: "فين غبتي؟"

أفضل ميم مرّ عليك هذي السنة؟

صورة لشخصين يضحكان معا، أحدهما يحمل لافتة كتب عليها: "هذا سندي"، وفي الخلف، نفس الشخص يوقّع عقد سكن باسمه وحده ..

ما زلت أبحث عن هذا الميم… أو ربما لم يجرؤ أحد على رسمه بعد ..

عادة أريد مواصلتها؟

أن أواصل العمل دون عطل قدر الإمكان، كي أوفر كل يوم راحة، لرحلة واحدة فقط: أخذ والدتي إلى العمرة ..

صورة أو فيديو معبرين عن حالتك في الست شهور الماضية؟

رجل أربعيني في محطة قطار، لا ينتظر أحدا، ولا يعرف إلى أين يذهب. يبدو كمن غادر مكانا ظنّه وطنا، ثم اكتشف أن الأوطان لا تُبنى بالعاطفة وحدها ..

أصالة & مروان خوري - كل القصايد

youtube

حين لا يشفي الزمن

كان الغدر أقسى من أن يُحتمل، فكتبت عنه. لم أقصد شيئًا، لكن النص فاز بلقب كاتب السنة ، إلى جانب تدوينتي عن شتاء ثمانية.

اليوم، بعد سنتين، أعيد نشره لأتأكد أن الجرح صار حكاية، والحكاية تحولت إلى أثر لا يمحوه الزمن.

حين تفشل الصداقة في إنقاذ إنسان

التدوينة الفائزة بلقب كاتب السنة

ذلك الصباح في شارع أكدال، كان كل شيء هادئا بشكل غريب. الشوارع شبه خالية، فقط من بعض السيارات التي تمر بسرعة، صوت الترام الذي يصدح في الفضاء، وأناس تركض على عجل. كان التناقض واضحا، بين الفراغ الذي يحيط بهم وبين إيقاع حياتهم المتسارع.

عندما التقيته أول مرة، بدا كشخص يحمل العالم فوق كتفيه. خطواته متثاقلة، عيناه تخفيان حزنا لم يصرح به أبدا، ابتسامته التي تظهر بين الحين والآخر كانت أشبه بمحاولة يائسة للهروب من واقع أليم. لم أكن أعرف الكثير عنه وقتها، سوى أنه بحاجة إلى من يمد له يد العون، أو ربما إلى من يلتقط ذلك النداء الصامت المنبعث من أعماقه.

حين تحدثنا للمرة الأولى، كانت كلماته قصيرة، متقطعة، يرافقها صمت ثقيل. كلما حاولت أن أبحث عن نظرة في عينيه، كان يخفضهما. تلك النظرة العابرة التي تفضح أكثر مما تخفي، لم يكن يضحك، بل كان يبتسم ابتسامة خجولة، مختلطة بشيء من الحذر، كان يضع يديه على الطاولة بهدوء، كما لو أنه يخشى أن يصدر صوتا يوقظ ذكرى ما قديمة.

في لحظات الصمت بين حديثنا، كان يراقب التفاصيل الصغيرة: قطعة الحلوى على الطاولة، زجاج النافذة الذي يعكس شحوب النهار، والمارة الذين يسرعون خطواتهم كما لو كانوا يخشون أن يفوتهم شيء مهم. بدا وكأنه يحاول الهروب من شيء يطارده في داخله.

كان كشخص يبحث عن ملجأ، عن قبول غير مشروط، لم أكن أرى فيه أي تهديد، بل رأيت إنسانا محاصرا، يحاول استعادة قوة مفقودة وسط عواصف مرت به. كانت أحاديثه عن الأيام التي تمر دون أن تترك أثرا، وعن الأماكن التي يزورها الناس لقتل الفراغ.

مع مرور الأيام، بدأت أتعرف أكثر على ذلك العالم الذي كان يختبئ خلفه. كان يحمل في داخله تاريخا مليئا بالخسائر، قصصا مكتومة لم يكن يتجرأ على سردها حتى لنفسه. حدثني عن خيباته، عن الأصدقاء الذين خانوا ثقته، وعن الأبواب التي أغلقت في وجهه عندما كان في أشد الحاجة إليها.

كان يستيقظ كل صباح وكأن الليل لم يكن راحة، بل معركة يخوضها في الظلام. لم يكن هناك فرق حقيقي بين الليل والنهار، سوى أن النهار يفرض عليه قناعا لا بد أن يرتديه أمام الآخرين.

كان الخوف يسكن في التفاصيل الصغيرة, في اهتزاز هاتف لا يحمل أخبارا مهمة، نظرة عابرة من غريب. أو حتى فكرة عشوائية تظهر دون مقدمات. وهكذا، صار القلق جزءا من يومه، ينهش عقله في كل لحظة، ويصنع سيناريوهات لم تحدث لكنها تكفي لإرهاقه.

الاكتئاب لم يكن صديقا جديدا، بل كان جالسا بجانبه منذ سنوات. لم يظهر فجأة، بل تسلل تدريجيا كظل بدأ صغيرا حتى أصبح يغطي كل شيء. كان يسرق منه أشياء بسيطة: الحماس، الفضول، القدرة على الاستمتاع. صار كل شيء يبدو بعيدا، حتى تلك الأشياء التي كانت تُفرحه من قبل أصبحت باهتة. جلسات الأصدقاء لم تعد تجلب الدفء بل صارت عبئا، واللحظات التي كان ينتظرها أصبحت مجرد محطات أخرى عليه تجاوزها حتى ينتهي اليوم.

كان ينام لكن الراحة لا تأتي. في بعض الأيام، كان النوم هو هروبه الوحيد، وفي أيام أخرى، كان جسده يرفض الاستسلام رغم التعب. الطعام فقد نكهته، والأحاديث فقدت معناها. حتى الموسيقى، التي كانت في يوم ما ملجأه، أصبحت ضجيجا لا يطاق. الأسوأ من كل ذلك، كان إحساسه الدائم بالفراغ، شعور بأنه يعيش داخل جسد ليس جزءا منه.

لم يكن السقوط رفاهية متاحة، لأن خلفه تقف عائلة بأكملها تستند عليه، تنتظر منه أن يبقى واقفا مهما كانت العواصف داخله. لم يكن هناك خيار للهروب أو حتى للانهيار بصمت، لأن أي سقوط يعني أن هناك من سيجوع أو من ستُطفأ أنوار بيته. كانت المسؤوليات تتراكم كجبال لم يختر أن يتسلقها، لكنه وجد نفسه في منتصف الطريق، ولم يكن بإمكانه العودة.

كان يفتح عينيه كل شهر على قائمة من الواجبات، فواتير يجب دفعها، أدوية يحتاجها أحد أفراد العائلة، مستقبل أخوته الذي يعتمد على جهوده، وأم تنظر إليه كمن يراه طوق النجاة الوحيد. لم يكن يملك ترف أن يتعب أو يطلب المساعدة. كان الجميع يراه قويا، لكنهم لم يدركوا أن قوته تلك كانت قيدا ثقيلا، وأنه في ليالٍ كثيرة كان يشتهي التحرر من كل شيء، من كل مسؤولية لم يخترها.

كان يحلم، ولو للحظات، بحياة بلا واجبات، بلا أحد ينتظره، بلا أصوات تسأله. كان يتخيل كيف سيكون الأمر لو استطاع أن يترك كل شيء ويسير بعيدا، لكنه في كل مرة يعود ليجد نفسه في نفس المكان. لم يكن هناك من يحمل عنه نصف الحمل، ولم يكن هناك من يسأله كيف حالك حقا.

أخبرني أنه ذات يوم، كان يجلس في مقهى إنترنت صغير عند نهاية الحي، حيث كان يقضي ساعات طويلة يتابع المنتديات، يتنقل بين المواضيع، ويشعر أن العالم بأسره يمكن اختزاله في شاشة متوهجة أمامه. لم يكن يعلم أن تلك اللحظة العابرة، التي كان فيها مستغرقا في قراءة كلمات لا يتذكرها الآن، ستكون محطة فاصلة بين زمنين.

قال لي إنه يتذكر ذلك اليوم كأنه مشهد ثابت، لا يتحرك، مثل صورة عتيقة فقدت ألوانها. كيف كانت الأضواء الخافتة للمقهى تلقي بظلالها على الطاولات، وكيف أن صوت النقر على لوحات المفاتيح كان يملأ الفراغ من حوله.
حين وصل إلى البيت، كان المشهد قد اكتمل. كان والده هناك. جسدٌ مسجى على السرير، ووجوه تهمس في زوايا الغرفة. وقف في الباب للحظات، لم يتحرك، كأن قدميه قد تجذرتا في الأرض. قال لي إنه لم يبكِ حينها، بل ظل واقفًا يحدق، كأنه ينتظر أن يفتح والده عينيه ليخبره أن الأمر كله كان خطأ، وأنه لا يزال حيا. لكنه لم يفعل.

عاد إلى مقهى الإنترنت بعد أيام. جلس في نفس المكان، أمام نفس الشاشة. فتح المنتدى ذاته، قرأ المواضيع ذاتها، لكنه شعر أن شيئا قد تغير. لم تعد الحروف تحمل نفس المعنى، ولم تعد الشاشة قادرة على منحه العزاء الذي كان يجده فيها من قبل. أصبح كل شيء بلا طعم، كأن العالم كله انطفأ حين أغمض والده عينيه للمرة الأخيرة.
قال لي: "كنت أقرأ وأكتب عن كل شيء، لكن لم أتعلم كيف أقول وداعا".

في حياته اليومية، كان بسيطا بشكل يكاد يكون موجعا. لم يكن يسعى وراء الرفاهية أو التفاصيل المُرهقة. السرير إن كان مريحا فهو جيد بما يكفي، الطعام إن سد الجوع فهو وليمة، والمكان إن ضمّه وأغلق عليه الباب كان وطنا. لم يكن ذلك رضا عن الحال، بل كانت طريقته الوحيدة للمضي دون أن ينهار تحت ثقل المطالب.

كان يشبه أولئك الذين يعيشون على أطراف المدن، بعيدا عن الضجيج، لا يُلاحظهم أحد إلا إذا اختفوا فجأة. في كل مناسبة، كان يختار الزاوية البعيدة، يجلس متكئا على جدار، يراقب الآخرين وهم يتحدثون بشغف عن أنفسهم، بينما يبتسم ابتسامة خجولة تكاد لا تُرى. لم يكن يبحث عن مركز الاهتمام، بل كان يكتفي بالوجود فقط.

كان بسيطا بشكل يوجع القلب، كأن الحياة خذلته كثيرا حتى تعلم أن لا يطلب منها شيئا. لم يكن يتكلف في حديثه، ولا يفرض نفسه على أحد. كان يرضى بأي مكان، بأي مقعد، بأي طعام مهما كان بسيطا. في المطاعم، كان ينتظر حتى يطلب الجميع، ثم يكتفي بما توفر، كأنه يخشى أن يُثقل كاهلك بطلباته. إذا دعوته إلى وجبة، لم يكن يملأ طبقه حتى يمتلئ طبقك أولا، وإن شعر أنك غير مرتاح، تظاهر بأنه شبع قبل أن يبدأ.

لكن خلف تلك البساطة، كان هناك حزنٌ عميق، كأنما قد عاش أكثر مما ينبغي، أو كأن السنوات سرقت منه شيئا لن يعود أبدا. رأيته كثيرا يشيح بنظره عن أشياء أحبها، يترك لنفسه نصف حلم، نصف ابتسامة، كأن الحياة لا تمنح الناس مثله سوى النصف، وكأنه اعتاد أن يرضى بذلك.

كان ينسحب عندما يحتد النقاش، يتركك تتحدث حتى تمل، وحين تسأله في النهاية إن كان موافقا، يهز رأسه بلا اكتراث وكأن رأيه لم يكن يعني شيئا منذ البداية. لم يكن ذلك تناسيا أو تجاهلا، بل كانت طريقته الوحيدة للاستمرار. كأنه يعلم أن التشبث رفاهية لا يملكها.

عاش كما تعيش تلك الأشجار التي لا يرويها أحد لكنها تنمو رغم ذلك، تتشبث بجذورها في الأرض، وترفع أغصانها بخجل نحو السماء.

في إحدى الليالي، بينما كنا جالسين في أحد المقاهي، كانت الأضواء الخافتة تلقي بظلالها على الوجوه المرهقة. نظر إليَّ نظرة لم أكن قد رأيتها من قبل، وكأن عينيه كانتا تحاولان قول الكلمات التي لا يستطيع أن ينطق بها. كان الصمت طويلا، يعكس كل شيء لم يعترف به بعد. أخيرا، همس بصوت خافت، وكأن الكلمات تخرج منه بصعوبة: أعاني اكتئابا منذ فترة، وقد هزمني. ولا أدري كيف سأخرج من هذا الظلام.

شعرت وكأنه يختبرني، وكأن كلماتي ستحدد طريقه، وربما مصيره كله. كان في نظرته شيء من الرجاء الممزوج بالخوف. استجمعت كل ما في داخلي من إيمان، وأجبته بصوت هادئ: "لستَ وحدك في هذا، سنمضي معا، بخطوات واحدة، وهموم مشتركة، وأحلام تستحق أن تصل إلى النور". في تلك اللحظة، كان قراري واضحا، أن أكون له سندا لا يهتز، أن أفتح له بابا لعالم ربما نسي وجوده. كان وعدا لي وله، بأننا لن نتوقف حتى نبلغ ما نستحق.

ذات يوم، حينما كانت الشمس تتوارى ببطء خلف المباني القديمة، حمل علبة صغيرة من الحلوى في يده، كان قد اشتراها بعناية من محل الحي، اختارها كما لو أنه اختار شيئا لنفسه، أو ربما لتعويض تلك الدعوة التي أحس أنها جاءت على استحياء. كان يمشي ببطء، يشعر أن المسافة أطول مما ينبغي، وأن خطواته مثقلة بشيء لا يستطيع تفسيره.

الناس كانوا يركضون إلى بيوتهم، يسرعون كأنهم يفرون من جوع العالم. السيارات القليلة التي كانت على الطريق تسابق الشمس قبل أن تغرب. لم يكن الأمر كذلك بالنسبة له، لم يكن يحمل عجلتهم، كان يحمل رجاء بأن يجد بابا مفتوحا ينتظره.

لكنه لم يجد العنوان. وقف في المكان الذي حدده له صديقه، فتش بعينيه عن باب مألوف أو علامة تدل عليه، لكن كل شيء بدا غريبا. الحي بأكمله بدا كأنه يرفضه، أو ربما كان هو الغريب، واقفا هناك فيما الجميع خلف الأبواب المغلقة. رفع هاتفه، اتصل مرة، مرتين، عشر مرات، لا أحد يجيب.

أعاد الاتصال بينما كان الأذان يقترب. تخيل أن صديقه يجلس بين أهله، وأن هاتفه يهتز فوق الطاولة، لكنه اختار ألا يمد يده، كأنما قرر في اللحظة الأخيرة أن هذه الدعوة ليست له، أو ربما لم تكن صادقة منذ البداية.

عند أول نداء للمغرب، كان لا يزال واقفا على الرصيف. الشوارع أصبحت فارغة تماما. فتح العلبة الصغيرة، نظر إلى الحلوى التي ظل يحتفظ بها طوال الطريق، لكنه لم يمد يده إليها. ظل هناك لبعض الوقت، واقفا، يستمع لصوت الأذان الذي يغمر المدينة، لكنه بدا بعيدا عنه، كأنه ينادي الآخرين فقط. لأول مرة شعر أن الجوع الذي في صدره لم يكن للطعام، بل كان جوعا من نوع آخر، شيء لم يكن الطعام قادرا على إطفائه.

عاد أدراجه بخطوات بطيئة، لم يأكل الحلوى، ولم يشرب سوى رشفة من زجاجة الماء التي كانت في حقيبته. أدرك أن لا أحد ينتظره، وأن علبة الحلوى تلك، كانت أثقل ما حمله ذلك اليوم. كان الشارع صامتا، سوى خطى بعيدة تتلاشى في الأفق، الناس مجتمعون حول موائدهم، وهو يمضي وحده، كأنه ظل لشخص نسيه الجميع.

حين أخبرني بهذه القصة، لم ينظر في عينيّ. كنت أعلم أن هذا النوع من القصص لا يُروى للآخرين بسهولة، وأنه لا يحكيه إلا لمن رأى فيهم انعكاسا لما شعر به.

كان يستيقظ صباحا، يتصفح الجريدة أو المواقع الإخبارية، يبحث عن أسماء لا يعرفها، أشخاص قفزوا من أسطح بنايات أو أطلقوا النار على أنفسهم في غرف مغلقة. كان يقرأ عنهم بعناية، يتوقف عند تفاصيلهم اليومية، ملابسهم الأخيرة، الرسائل التي تركوها خلفهم. لم يكن يشعر بالصدمة أو الحزن، بل بشيء يشبه الراحة، كأن فكرة أن هناك من وصل إلى نهاية الطريق قبله كانت تمنحه شعورا مؤقتا بالرفقة.

كان يقلب الصفحات، عينيه تلاحق العناوين كما لو كان يتوقع أن يجد اسمه بينها. في أعماقه، لم يكن يريد الموت، لكنه كان يبحث عن تفسير، عن معنى، عن شيء يبرر كل ذلك الثقل الذي يجثم على صدره. كان يرى في تلك الأخبار مرآة تعكس ما يشعر به، لكنه لم يكن قادرا على النظر إليها مباشرة.

"كنت أبحث عن قصص أولئك الذين لم يحتملوا" قال لي ذلك بينما كان يحدق في الأرض. كان يرويها كأنها قصة تخص شخصًا آخر، لكنه لم يستطع إخفاء تلك الرعشة الصغيرة التي تسللت إلى صوته. قال لي إنه في كل مرة كان يقرأ عن شخص ما أنهى حياته، كان يشعر بشيء يشبه العزاء. كأن موته كان شهادة على أن الألم الذي يحمله لم يكن وهما، وأن هناك آخرين يخوضون نفس التجربة، وإن لم يتحدثوا عنها أبدا.

في كل مرة يقرأ فيها قصة جديدة، كان يبقى مستيقظا لوقت أطول من المعتاد. كان ينظر إلى السقف في الظلام، كأنما ينتظر شيئا، ربما رسالة، أو علامة، أو حتى اسما جديدا يضاف إلى قائمة أولئك الذين سبقوه إلى النهاية.
سألته يومها إن كان يفكر في الأمر أيضا. ضحك ضحكة جافة وقال: "ربما، لكنني أجبن من أن أفعل ذلك. أنا أكتفي بالقراءة، أراقب الآخرين يسقطون وأبقى هنا، أعيش نصف حياة ونصف موت."

قالها بابتسامة لكنها كانت أثقل من أي حزن يمكن وصفه. لم أحاول مواساته، لأنني كنت أعلم أن الكلمات، مهما كانت صادقة، لا تملك القوة الكافية لترميم شيء هش في أعماق إنسان. لم يكن يبحث عن مبررات للعيش، بل عن حجج تُثبت أن الأمر لا يستحق كل هذا العناء.

حين انتهى من حديثه. شعرت أنني أجلس بجوار شخص ينهار بهدوء، لكنه يُخفي كل ذلك تحت قناع من الصبر واللامبالاة.

كبر وهو يهرب من عدسات الكاميرات، يختبئ خلف الجموع أو يقف جانبا حيث يمكن أن يُقتطع بسهولة من الإطار. في كل مرة يُلح عليه أحدهم للوقوف في صورة جماعية، كان يشعر أن وجوده في الصورة كغريب يقتحم احتفالا لم يُدع إليه. لم يكن الأمر مجرد كره للصور، بل خوفٌ من أن يُجبر على مواجهة نفسه كما هي، بلا رتوش ولا محاولات للهروب.

ربما لم يكن أحد ليلاحظ ذلك العيب البسيط، لكن الأمر لم يكن متعلقا برؤية الآخرين. في أعماقه، كان يعلم أن العطب لم يكن في الصورة بل في صوته الداخلي، ذلك الصوت الذي همس له دائما أن شيئا ما ليس على ما يرام، وهكذا، كلما التقط الناس صورا لذكرياتهم، كان هو يحمل ذاكرته وحده، بلا صورة تثبت وجوده.

أكثر ما كان يؤلمه هو شعوره بأن العالم يمضي ويتذكر كل لحظة من حياته من خلال الصور، بينما هو وحده يحمل ذاكرة عارية. لم يكن هناك دليل على حضوره في أي مكان. كأنه طيف مر بجوار الجميع، بلا أثر، بلا لقطة تثبت أنه كان موجودا بينهم.

لم يكن شراء الشقة مجرد قرار مالي أو استثمار بسيط، بل كان أشبه ببناء سفينة وسط صحراء. كان يرى فيها أكثر من أربعة جدران وسقف، كان يرى حياة جديدة، وعدا بأن عائلته ستتنفس في مكان أكثر اتساعا، بعيدا عن الشوارع الضيقة التي حاصرته منذ طفولته.

كل صباح كان يستيقظ وفي رأسه مشهد الشقة وهي تمتلئ بالأثاث، بضوء الشمس الذي يتسلل عبر ستائر لم تُشترى بعد، وصوت والدته وهي تتجول في الغرف التي تخيلها مليئة بالدفء. كان يحمل هذا الأمل وحده، يراه بوضوح بينما الآخرون لم يروه أبدا. كانوا يبتسمون لمجرد الحديث عن انتقالهم إليها، لكنه كان يعرف أن الحلم لا يُبنى بالابتسامات وحدها. كان يعرف أن الثمن أكبر مما يبدو، لكنه كان مستعدا لدفعه.

حتى جاءت اللحظة التي وقف فيها أمام الباب، بمفتاح جديد بيده، ونظر إلى والدته قائلا: "هذه هي". لكن الشقة بقيت فارغة، كل شيء فيها كان خاطئا بطريقة صامتة لكنها واضحة. ضيق المكان، والنوافذ التي تفتح على مشهد خال من أي حياة. كانت الشقة فخا مكسوا بالأمل. دفع كل ما يملك، بل ما لا يملك، ليضع عائلته في مكان أكثر أمانا، لكنه حين نظر إليهم هناك، لم يجدهم.

كانوا يأتون أياما ثم يختفون، يمرون بها كزوار عابرين، ثم يتركون المكان عاريا كما كان. كان يتجول في أرجاء الشقة كأنه يتفقد جثة يعرف أنها لن تعود للحياة. كانت تجسيدا لكل ما حاول تقديمه ولم يُقبل منه. بدا وكأنه اشترى لهم شيئا لم يطلبوه، وكأنه بنى لهم منزلا فوق رمل متحرك، لا يقفون فيه إلا للحظات قبل أن يغادروه.

لم يسألوه كيف دفع ثمنها، لم يلاحظوا ارتجاف يديه حين وقع الأوراق، ولا تلك الليالي التي قضاها يفكر كيف سيسدد القسط التالي. كانوا يرون الجدران، لكنه وحده كان يرى الثقل الذي تحمله. كل ركن فيها كانت شاهدا على خذلان لا يمكن نطقه.

كنت أعرف جيدا أن هذا النوع من الحكايات لا يُروى إلا لمن تثق به تماما، أو لمن تراه في يوم من الأيام شاهدا على ما كنت تحاول النجاة منه.

كان غريبا بطريقة تجعلك ترغب في الاقتراب، لا لتفهمه، بل لتطمئن أنه ليس وحيدا غريبا في عالمه. لكني أدركت لاحقا أن هذا النوع من الغربة لا يمكن مشاركته، لا يمكن كسره بكلمات بسيطة أو صحبة عابرة. لقد كان يسكن عالما داخليا لا يملك أحدٌ مفتاحه، وحين كان يفتح نافذة صغيرة منه، كنا نقف عاجزين على العتبة، غير قادرين على الدخول.

ربما لهذا السبب ظللت بجانبه طويلا، كنت أخشى أن ينغلق تماما على نفسه. كأنني شعرت، بطريقة لم أستطع شرحها حتى لنفسي، أنني إذا ابتعدت، قد يضيع إلى الأبد، وقد لا يجد أحدا ليعيده إلى السطح مجددا.


وهكذا، امتدت الصداقة على مدار السنوات، لقاءات ومحادثات كان بعضها عابرا، والبعض الآخر يغوص في أعماق النفس. كنت أراه يتغير تدريجيا؛ يتحدث أكثر، يبتسم أحيانا بصدق، وكأن طبقات الجليد حوله بدأت تذوب ببطء.

مع مرور الوقت، جاءت فكرة الانتقال للسكن معه في مدينة أخرى. دعاني لمشاركته منزله كـ"شريك سكن"، شعرت أن هذه الخطوة كانت امتدادا لما بنيناه من صداقة. بدا المنزل في البداية كأنه انعكاس لشخصيته: جدران فارغة، أثاث معدوم، وبرودة تخنق الروح. كان المكان يفتقر لكل مظاهر الحياة، وكأن الزمن توقف داخله.

بدأت بجلب الأغراض شيئا فشيئا، اشتريت قطع أثاث بسيطة: طاولة صغيرة تتسع لفنجاني قهوة وصحنين وملعقتين. كان ذلك بمثابة دعوة لشخص ما لمشاركته هذا المكان، وسائد وسجاد يغطي الأرض الباردة، لمبات جديدة تجعل المساء أقل وحشة. خصصت زاوية في الصالة كمساحة للعمل والمشاركة. جلبت نباتات بلاستيكية وضعتها فوق الطاولات، علّها تضيف نبضا آخر للحياة.

في كل يوم كنت أحرص على أن أعد الطعام، وأضع له طبقا بعناية تماما مثلما أضعه لنفسي. كنت أتحقق من تفاصيل صغيرة مثل ما إذا كان الطبق مملوءا بما يكفي، لم أغشه يوما في وجبة، كنت أنتظر حتى يعود لنتشارك اللحظة. لا أستطيع تذكر مرة تناولت فيها طعامي وحدي بينما كان غائبا. كنت دائما أترقب خطواته أمام الباب، وكأنها هي الإشارة التي تعني أن اليوم سيكتمل.

كان كل شيء يحمل في تفاصيله محاولة لجعل الحياة أقل رتابة. كنت أحرص على تغيير الأواني من حين لآخر، لكسر الروتين وإضافة لمسة تشعرنا أن الأمور ليست مجرد تكرار يومي. كنت أؤمن بأن الترتيب هو ما يحافظ على المساحة المشتركة مريحة للجميع. ابتكرت نظاما بسيطا، حيث لا تترك الأمور تتراكم حتى تصبح عبئا. الأرضيات تُنظف مرة واحدة في الأسبوع، والأغراض تعاد إلى مكانها فور الانتهاء منها.

سعيت دوما على الإيفاء بكل التزاماتي في ذلك السكن، أسدد الفواتير أولا بأول، وأحرص على شراء أفضل وأجود أنواع الطعام، ليس لأنني أعيش برفاهية، بل لأنني كنت أؤمن أننا نستحق الأفضل دائما.

لم تتسلل إلى قلبي مشاعر الحقد أو الحسد أو الشر. كان الأمر يتعلق بشيء أعمق من ذلك. كنت أراه أكثر من مجرد شخص عابر في حياتي. كنت أحاول أن أكون هناك في كل لحظة تحتاج فيها الحياة إلى شعور دافئ أو كلمة صادقة. كنت أرغب دائما أن أراه سعيدا، كما أريد لنفسي أن أكون.

في كل تلك اللحظات التي كان بإمكاني أن أتركه فيها خلفي، لم أفعل. كان إحساسا عميقا بأن خيانته كانت ستُشبه خيانتي لنفسي. كنت أراه يتعثر أحيانا، يتراجع إلى الظل وكأن الحياة أثقلته أكثر مما يحتمل، وكنت أستطيع أن أمضي بعيدا، أن أختار راحتي على حسابه، لكنني كنت أبقى.

كان أشبه بمرآة تذكرني بأضعف أجزائي، بأكثرها هشاشة. كيف يمكن أن أتخلى عن شخص رأيت فيه جزءا من نفسي؟ كيف أخونه دون أن أحطم شيئا بداخلي؟ بل حتى في أكثر الأيام صعوبة، كنت أتحمل عبء الحياة اليومية. صوت المصعد الذي كان ينغص نومي، الإزعاج المستمر من الجيران، والقمامة التي كانوا يضعونها أمام الباب. أحيانا كنت أدخل في معارك صغيرة للدفاع عن المساحة التي أحاول جعلها مستقرة، وأحيانا أخرى كنت أشتري ودهم بالهدايا والمال لأخلق نوعا من السلام.

كنت أشجعه في كل خطوة، في محاولاته الصغيرة والكبيرة، أحفزه على أن يرى ما رأيته فيه: شخص قادر على مواجهة الحياة، على تحقيق شيء أكبر مما يظن. كنت أقول له دائما: "أنت تملك ما يكفي لتنجح، لكنك تحتاج أن ترى نفسك كما أراك". ربما كنت أؤمن به أكثر مما آمنت بنفسي أحيانا، لأنني رأيت فيه تلك الإمكانيات التي تحتاج فقط إلى من يصدق بها ليطلقها للعالم. كنت هناك، حينما كانت كل الأشياء تبدو ضده، وحين كان هو يقف ضد نفسه.

مرّت السنوات، وأصبح ذلك السكن عنواني الوحيد. ست سنوات من العطاء، من التضحيات، من المحاولات المستمرة لإعادة صياغة عالم كان يوما ما فارغا دون حياة.

مع مرور الأيام، بدأت ألمس تغييرات صغيرة. تلك التفاصيل البسيطة التي لا يمكن تجاهلها: صمته الذي كان يحمل في البداية نوعا من الطمأنينة أصبح فجأة صمتا مثقلا بالمواقف غير المعلنة. نظراته التي كانت تحمل امتنانا صادقا تحولت إلى نظرات عابرة.

حينما كنا نتحدث، كانت كلماته أقل صراحة، وأحيانا غامضة، وكأن هناك حاجزا غير مرئي بدأ يرتفع بيننا. ومع الوقت، بدأت أسمع أشياء هنا وهناك. تعليقات مبهمة من أشخاص آخرين، كلمات عابرة تحمل إيحاءات بأن هناك شيئا يحدث خلف ظهري. بدأت أشعر أنني أصبحت غريبا في المكان الذي شاركته معه لسنوات.

في أحد الليالي، بينما كنت أرتب الفراش، تسرب إلى نفسي شعور غريب. شعرت أنني أجهز هذا المنزل ليصبح محطة رحيل أخرى. كنت أعتقد أن دفء الصداقات قادر على كسر برودة العالم، لكنني لم أكن أعلم أن بعض الجدران تخفي وراءها شقوقا لا تُرمم.

مع مرور الوقت، بدأت تظهر بعض الإشارات التي لم أكن أرغب في رؤيتها. كانت الأكاذيب الصغيرة تتسلل إلى المحادثات، أشياء بدت تافهة في البداية، لكنها بدأت تتراكم وتثير الشكوك. كانت هناك تبريرات غير مبررة لأشياء لا تحتاج إلى تفسير، مما جعلني أبدأ في التساؤل عن النوايا. لكنني كنت أختار تجاهل هذه الشكوك.

ثم جاءت اللحظة التي تغير فيها كل شيء، تلك الليلة لن أنساها أبدا، كنت مريضا إلى درجة لم أستطع معها مغادرة الغرفة. كنت بحاجة إلى العون، إلى شخص يدعمني، لم أجد في قائمة الاتصال غيره، وأخي الذي كان في مدينة بعيدة، كان الأقرب، وظننت أنه سيكون هناك، كما يفترض بصديق بعد سنوات من العشرة. لم يكن مجرد خيار، بل كان واجبا، التزاما تفرضه الأخلاق والسنوات والمواقف.

أوهمني أن القطار الأخير قد فات، وأنه لا يستطيع المجيء. وفي الغذ، عرفت أنه كان في مكان غير بعيد عن الفندق، يقضي وقته مع أولئك الذين وعدني بأنه لن يكون أبدا في صفهم، لكنه خذلني. تلك الحادثة غيّرت كل شيء. شعرت أن الغذر أصبح واقعا لا مفر منه، وأن الثقة التي كانت تجمعنا قد انتهت تماما.

ذلك الخداع ترك جرحا لا يندمل، والسكن الذي كان يوما ما عنواني الوحيد، أصبح الآن مكانا لا أريد العودة إليه.
لم يكن عن الكذب تلك الليلة، أو عن المجموعة التي حذرته منها، بل كان عن تلك الحقيقة العميقة التي كشفتها تدريجيا: أنني لا أستطيع أن استأمنه على نفسي أبدا. كان هذا هو الألم الأكبر، أن أكتشف أنه كان مجرد صورة مغشوشة عن الأمان الذي كنت أتعلق به. كانت تلك هي الخسارة الحقيقية، عندما أدركت أنني قد وضعت كل شيء في مكان غير مناسب، وقد خذلتني الثقة في أبشع صورها.

بعد ليلة الفندق، بدأت الأمور تصبح أكثر وضوحا، وكأن تلك الحادثة أضاءت جانبا مظلما كنت أتجاهله طوال الوقت. لم أعد أستطيع الهرب من الإشارات التي كانت تحيط بي: تصرفاته التي أصبحت أكثر غموضا، اهتمامه المفاجئ ببناء علاقات جديدة، الكذب والخداع بينما نتشارك وجبات الطعام كان الأشد.

كنت أسمعه يتحدث معهم عبر الهاتف، يضحك ويتبادل أطراف الحديث بحرارة، لكنني لم أعد جزءا من تلك الأحاديث. كنت أراقب من بعيد، أشعر وكأنني أتحول تدريجيا إلى غريب في المكان الذي كان عنواني الوحيد. كانت النهاية تكتب نفسها ببطء، والكلمات التي لم تقال، كانت أكثر صدقا من أي شيء نطقناه.

كانت الشمس قد بدأت تميل نحو الغروب حين وصلنا إلى الدار البيضاء، أنا وأخي الأصغر، متعبين من الطريق الطويل، ولكن بشيء من الحماس، أو ربما بشيء من الأمل. كان بيننا اتفاق، موعد محدد، وكنت واثقا، أو كنت أقنع نفسي بذلك، أنه لن يخذلني هذه المرة. جلسنا ننتظر، الدقائق تمر، ثم الساعات، وكل رسالة مني كانت تُقابل بمراوغة، بتأجيل، بكلمات فضفاضة لا تقول شيئا. لكنني كنت لا أزال أتشبث بما بقي من يقين، حتى جاء اعترافه أخيرا: لم يكن في المدينة، لم يكن حتى في البلاد. كان بعيدا، في رحلة ممتدة، فيما كنت أنا وأخي ننتظر سرابا.

لم أكن أواجه خيبة عابرة، بل كنت أواجه الحقيقة التي كنت أهرب منها منذ زمن، كان يمكنني أن أتقبل الخذلان من غريب، من شخص التقيته صدفة في طريق مزدحم ثم اختفى كما جاء، بلا أثر ولا عودة. لكن أن يأتي الخداع من شخص عاشرته لسنوات، من شخص شاركني السقف والخبز والطريق، من شخص جلست معه على ذات الطاولة، أكلت معه من ذات الصحن، ضحكنا على ذات النكات، كان ذلك خذلانا يتجاوز كل التصورات.

في تلك الليلة، حين ركبت الحافلة مع أخي مرة أخرى، لم يكن الأمر مجرد عودة من سفر فاشل، كنت أمضي، وأنا أعرف أن شيئا قد مات في داخلي، وأنه لن يعود أبدا. كان ذلك اليوم محطة ستظل محفورة في ذاكرتي، كندبة غائرة في القلب، كشاهد على السذاجة التي دفعت ثمنها، وعلى الخذلان الذي لم يكن مجرد قرار، بل كان مخططا له بدم بارد.

لم أشعر بالغضب كما توقعت، بل بشيء أقسى من ذلك: شعرت بالقرف. بالقرف من كل شيء، من الذكريات، من العشرة الطويلة، من الثقة العمياء، ومن نفسي لأنني لم أرَ هذا الخداع قادما.


----------

كان يوم المواجهة أشبه بانفجار متوقع بعد شهور من التراكم. شعرت بأن الوقت قد حان لإنهاء هذا الألم، بغض النظر عن العواقب. جلست أحاول أن أحتفظ بهدوئي رغم كل المشاعر التي كانت تضطرم بداخلي. بدأت الحديث بصدق وعفوية، تحدثت عن كل ما لاحظته، عن التغيرات التي لمستها وآذتني، عن الأكاذيب التي بدأت تظهر واحدة تلو الأخرى.

كنت قد اعتدت على الابتعاد عن المواجهة المباشرة، كنت اكتفي بسؤاله هل تخلصت من الذين آذوني؟ هل وضعت لهم نهاية؟ وكان أحيانا يكذب وأحيانا يتهرب بأجوبة مبهمة، كأني أسأل عن شيء هامشي لا يستحق الوقوف عنده. لكن تلك اللحظة كانت مختلفة، ذلك اليوم كان مختلفا، لم أعد أبحث عن أي إجابات.

ودعته وغادرت عائدا للسكن لاخذ اغراضي وأرحل، بعدها بيوم أرسل لي كلمات لن أنساها ما حييت: "أذهب للجحيم، كان يجب أن أتخلص منك منذ زمن بعيد، وليس الآن".

تلك الرسالة المحملة بالشتائم والغدر، كانت أكثر مما أستطيع احتماله. شعرت أنني لم أفقد شخصا كنت أعتبره صديقا فحسب، بل فقدت جزءا من نفسي، من قدرتي على رؤية الخير في الآخرين.

لم يكن في حديثه أي محاولة للفهم، أو أي كلمة لتخفيف الألم، أو جبر للخاطر، ولا أي إشارة على أن ما حدث كان له قيمة. كان إعلانا صريحا عن جحود امتد لسنوات.

كنت جالسا هناك. أستمع لصدى الكلمات وهي ترتطم داخلي. شعرت أن شيئا ما قد كسر للأبد، لم يعد بإمكاني الوقوف. والضعف الذي حاولت جاهدا أن أخفيه طوال أسابيع ظهر بوضوح في تلك اللحظة، مكشوفا بلا أقنعة ولا تبريرات.

لم أحاول البكاء، لأنني كنت أعلم أن الدموع لن تخفف شيئا، فقط جلست هناك، كطفل فقد الطريق إلى بيته، ضممت نفسي كمن يبحث عن دفء في يوم بارد. لم أكن قويا في تلك اللحظة، كنت مجرد إنسان، يُظهر ضعفه بصدق تام، كنت ضعيفا، كما يحق لأي إنسان أن يكون.

وجدت نفسي بعدها عاجزا عن الصمت أكثر، كأن كل ما كنت أدفنه بداخلي قد انفجر دفعة واحدة. لم أعد أستطيع السيطرة على غضبي، أو حتى على يدي التي أخذت تكتب بسرعة وكأنها تتسابق مع أنفاسي المتلاحقة. كتبت رسالة طويلة، رسالة كانت أشبه بمرآة أعكف على كسرها، أعيد فيها سرد كل لحظة، كل خيبة، وكل تلاعب واستغفال. لم أكتب فقط لأرد على شتائمه، بل كنت أصرخ في وجه كل السنوات، في وجه الزيف الذي مر تحت غطاء الصداقة.

في تلك اللحظة، لم أكن أبحث عن تبرير أو حتى عن فهم. كنت أكتب النهاية. كل كلمة قالها، كل تصرف، كان يدفعني نحو هذه اللحظة التي لا عودة منها. الكلمات خرجت كما هي، قاسية، مؤلمة، تحمل غضبا لم أعرف أنني أستطيع حمله. لم يكن غضبا عاديا، كان غضب الشخص الذي اكتشف أنه أضاع سنواته في الظلام، الذي أُجبر على أن يواجه شرا لا مفر منه.

كنت أكتب بلا توقف، وكأنني أحاول انتزاع ما بداخلي حرفا بعد حرف، أردت أن أضع حدا، أن أُنهي كل شيء بهذه الطريقة، لأنني لم أعد أحتمل أن أظل أسيرا لهذا الألم. الرسالة لم تكن كلمات فقط، كانت وداعا نهائيا لشخص لم أعد أريد أن أراه في حياتي.

قبل الحادثة بيوم، وبينما كنت أستعد لمغادرة السكن، نظرت حولي إلى الأشياء التي جمعتها على مدار السنوات. الأثاث البسيط، الأغراض التي رافقتني، الأواني التي استخدمتها لتحضير الوجبات اليومية، كلها كانت تشهد على محاولاتي لصنع حياة، على ما ظننته يوما دليل استقرار. لكن تلك الأشياء، التي اعتقدت أنها تمثل الانتماء، لم تكن سوى أوهاما هشّة. لم أكن أملكها بقدر ما كانت تملكني.

كل زاوية كانت مليئة بالذكريات التي كنت أحاول تخزينها لأيام أصعب. كان الهواء في الغرفة تلفه البرودة، كأن المكان نفسه يستعد لوداعي. كان آخر ما قمت به هو ترتيب الفراش. كانت لحظة صمت طويلة وأنا أضع الوسائد في مكانها، وأبسط الأغطية بعناية، كما كنت أفعل كل صباح.

لكنها كانت هذه المرة أكثر من مجرد ترتيب. كانت محاولة أخيرة لتحديد مكانتي بين الأشياء التي تركتها ورائي. كنت أشعر أنني أودع جزءا من حياتي، جزءا من نفسي التي كانت مرتبطة بكل شيء هناك. جزءا لن أستعيده أبدا.

وقفت أمام المرآة أحدق في صورتي، لم أرى سوى وجهٍ غريبٍ لا يمت لي بصلة، حتى ملامحي بدت وكأنها قد تخلت عني. شعرت لأول مرة انني دخيلٌ، كائنٌ لا ينتمي إلى المكان. بحثت عن زاوية واحدة تشبهني، فلم أجد سوى فراغٍ يمتد بلا نهاية.

عندما أغلقت الباب بإحكام، كان هناك شعور غريب بالتحرر، كنت أعلم أن الحياة لا تنتظر أحدا. كان الطريق أمامي طويلا ومجهولا، لكنه كان لي وحدي هذه المرة. مضيت محاولا أن أجد تفسيرا لهذا الخداع، لم أجد شيئا، ربما كان فقط اختلافا في الرؤية، حيث رأى كل منا السكن والصداقة بطريقة مختلفة عن الآخر.

في مرات كثيرة، أردت أن أتركه، أن أضع حدا لكل شيء وأمضي بعيدا، بعيدا عن ثقل التوقعات الذي كنت أحمله وحدي. كنت أرى العلامات تتوالى أمامي، كإشارات طريق أعرف نهايته جيدا. لكنني كنت أعيد صياغة المشهد في رأسي، ألون الحواف الرمادية، وأخلق أعذارا لحالات الكذب والخداع. كنت أحتاج أن يصدق، ولو لمرة واحدة، حتى لو كنت أعلم في أعماقي أنني أُعيد ترتيب الأكاذيب لا أكثر.

لو عاد الزمن إلى الوراء، كنت سأشعر بالندم على السماح لنفسي بالوصول إلى تلك اللحظة من الانفجار، تلك اللحظة التي كنت فيها مرهقا بما يكفي لأفقد السيطرة. الندم الحقيقي يكمن في كل مرة تجاهلت فيها العلامات الواضحة، في كل مرة اخترت أن أُغلق عينيّ عن الحقيقة، وأغفر أشياء لا تغتفر، وأتجاوز حدودا لم يكن ينبغي تجاوزها أبدا.

ربما كان عليّ أن أغادر من اللحظة الأولى التي شعرت فيها بالغدر، عندما كنت أرسل له الرسائل، وأنا أبدأها بـ: "هل استأمنك على نفسي؟ هل وضعت لهم نهاية؟". لم يكن السؤال مجرد كلمات، بل كان صرخة صامتة تكشف حجم الضياع الذي سببه لي.

لو عدت للوراء، كنت سأضع نفسي أولا، كنت سأحميها بدلا من أن أضحي بها. لكن الحقيقة التي لا مفر منها هي أنني لم أكن أملك هذا الوعي حينها. كنت أعتقد أن التجاوز كفيل بأن يصلح كل شيء. الآن فقط أدركت أن حماية نفسي كانت الخيار الوحيد الذي تأخرت كثيرا في اختياره.

ربما كان عليّ أن أتركه دون رد، أن أمضي بهدوء، تاركا له ذنبه ليحمله وحده. ربما كان الأفضل أن أترك صمتي يجيب عن كل شيء، لأنه في أحيان كثيرة، يكون الصمت أقوى من أي كلمات.

عندما انتهى كل شيء أخيرا، لم أعد قادرا على رؤية الخير في الآخرين، كل ابتسامة كانت تحمل في طياتها شكوكا، كل كلمة طيبة بدت كطعم يحاول استدراجي نحو خيبة أخرى، وكل صداقة جديدة أصبحت مشبوهة بالشك والأكاذيب، بدأت أشعر أنني أعيش في عالم بلا وجوه صادقة، حيث كل شيء يبدو ظاهره جميلا، لكنه يخفي داخله قبحا لا يوصف. ويجعلني أتساءل إن كنت سأتمكن يوما من الوثوق بأحد مرة أخرى.

كانت تلك اللحظات مليئة بالأسئلة التي لا إجابات لها، كنت أبحث عن نفسي في ظل الظلام الذي غطى كل شيء، كنت قد فقدت القدرة على التمييز بين الواقع والوهم. كانت تلك الفترة هي الأكثر صعوبة والأشد إيلاما.

كانت محاولاته لتشويه سمعتي حثيثة، بكل الطرق التي تخلو من أي أخلاق. كان يسعى بكل جهد للظفر بصداقته الجديدة، بدا كشخص ضعيف يسعى لقبول جديد بأي ثمن. أصبحت مادة للنميمة بين دوائره. كان يروي قصصي، تلك التي قلتها في لحظات ضعف أو ثقة عمياء، تلك التفاصيل التي ظننتها ستبقى محفوظة في صدره، لكنه نثرها في الهواء. كنت حاضرا في تلك الجلسات، كموضوع حديث للتسلية.

لم أعرف كيف استطاع أن يعكس صورتي بذلك التشويه، أن يحوّل كل ما قدمته من عطاء إلى دليل مزيف على أنني عبء. كيف جعل من كل ما بذلته في سبيل الخير شاهدا على أنني خطر يجب تجنبه، كيف سأقف الآن في وجه هذا الظلام الذي صنعه بيديه.

كنت أتمنى ألا يسقط. لم أكن أرغب في رؤيته يحترق تحت وطأة أخطائه، حتى وإن كنت واحدا ممن أشعل بهم تلك النار. أردت له أن يبقى، لأنني أعرف ما معنى السقوط حين لا يكون هناك من يمد يده إليك.

كنت أعرف أنه لن يفهم هذا، وربما لن يشعر به أبدا، لكنني شعرت أن الحياة، مهما ظلمتنا، لا يجب أن تتركنا عراة تماما أمام أنفسنا. لهذا، حتى حين مضيت بعيدا، لم أحمل في قلبي نية للانتقام أو الرغبة في أن يذوق الخسارة التي عرفتها. أردت فقط ألا أراه في مكان كنت أعرف جيدا كم هو مظلم.

في البداية، حاولت أن أسأل عنه، أن أطمئن عليه من بعيد، كمن يلقي بنظرة خاطفة على بيت احترق ذات يوم. لم يكن في نيتي العودة، كنت أعرف يقينا أنني لن أخطو نحو المكان الذي شعرت فيه بالظلم والإهانة.

عندما عرفت أنه غيّر مفتاح السكن، لم أشعر بالغضب، بل بحزن هادئ، كأنني رأيت جزءا أخيرا من قصة لم يعد لها مكان في الحاضر. وما كنت أبحث عنه في البداية، مجرد يقين بأنه بخير، أصبح عبئا لم أعد أرغب في حمله.

كان المفتاح رمزا لوعد، وعد أن المكان سيظل ينتظرني حتى لو تأخرت في العودة، أن الأبواب ستظل مفتوحة مهما تغيرت الظروف، وأنني لا أحتاج للطرق، وكان في تصرفه ذاك قتلٌ لأي أمل في العودة. إذ كلما نويت ذلك، شعرت أنني أخون نفسي.

كنت أقف أمام بحر الصويرة، والمفتاح في يدي، كان شاهدا على البدايات، مر شريط كامل من الذكريات أمام عينيّ، كأنه فيلم يعيد مشاهد كنت أظن أنني نسيتها، كل تفصيل صغير كنت أحاول نسيانه. رأيت نفسي في أول يوم دخلت فيه ذلك السكن. لم يكن هناك شيء سوى جدران فارغة وأرضية باردة. أول وجبة تناولناها كانت على الأرض، بلا طاولة ولا كراسٍ، مجرد أطباق بسيطة وضعناها بيننا.

ليالي الشتاء الأولى كانت باردة، لم يكن هناك سخان، كنا نستخدم قدرا صغيرا لغلي الماء من أجل الاستحمام. كنت أقف هناك، أحمل القدر بحذر، كمن يحمل كنزا يخشى أن يتبخر في الهواء البارد، متظاهرا بأن كل ذلك مجرد مرحلة قصيرة سنجتازها قريبا.

تذكرت الأكواب والصحون التي كنا نستخدمها ونغسلها بعناية، لأنها كل ما نملك. تذكرت رائحة الطهي الأولى التي ملأت المكان، كانت وجبة مليئة بحكايات لم تكتمل وابتسامات تخفي وراءها خوفا عميقا من الغذ، تذكرت اللحاف البسيط، الذي كنت أحرص على طيه بعناية كأنني أعده لليلة أخرى.

تذكرت أول مرة حاولنا فيها طهي الخبز، كانت عجينة غير متساوية، كنا نراقبها باندهاش بينما تنتفخ ببطء. التصقت إحدى القطع بالفرن، وخرجت مشوهة الأطراف، ومع ذلك كانت لذيذة وحملت البصمة الأولى في عالم العجائن.
حتى آلة الغسيل البسيطة، التي بالكاد كانت تعمل، كانت إنجازا في تلك الأيام. كانت تهتز في منتصف البلكونة وهي تحاول أن تؤدي وظيفتها، وكنا نضحك وكأن كل شيء كان على ما يرام.

تذكرت تلك العلب البلاستيكية التي كنت أضع فيها أدواتي التي كنت أحفظها بعناية مبالغ بها، وكأنني أخشى أن أضيّع جزءا من عالمي الصغير. كان ترتيب تلك العلب محاولة للسيطرة على فوضى أكبر لم أكن أملك القوة لمواجهتها. كانت صناديق صغيرة تحفظ التفاصيل التي لا يراها أحد سواي، لكنها بالنسبة لي كانت تشهد على وجودي في ذلك المكان. والآن، وأنا أودع كل ذلك، شعرت أنني لا أترك خلفي أشياء مادية، بل أجزاء من ذاتي، ملامح خفية لعمر قضيتُه في محاولات صغيرة لبناء حياة.

رفعت المفتاح كأنني أودعه. نظرت إليه لمرة أخيرة، وألقيته في البحر، كانت تلك اللحظة وداعا نهائيّا، وداعا لماض لم يعد لي مكان فيه.


----------

مرت شهور، وكنت أحاول أن أعيد ترتيب حياتي في بلاد جديدة. كنت أبحث عن بداية تليق بكل ما خسرت. كانت لدي مشكلة قانونية لم أجد من أشاركه همها. لم أستطع أن أطلب الإستشارة من أحد، وفي لحظة ضعف أو ربما أمل، فكرت فيه. خطر ببالي كآخر خيار، ربما لأنه كان يوما أقرب الناس، وربما لأنني أردت أن أصدق أن شيئا من الود يبقى بين رماد العلاقات.

راسلتُه، شرحت له مشكلتي دون تحفظ. وضعت ثقلي كله في تلك الرسالة، متجاهلا كل التحذيرات التي همست بها ذاكرتي وكل الشكوك التي كانت تدور في رأسي. كمن يفتح جرحا أمام طبيب لا يثق به، أعطاني استشارة بدا أنها تحمل نوايا المساعدة، لكنها كانت مغلفة بالغموض والتخويف، أخبرني أن السجن ينتظرني خلال ثلاث أشهر على الأكثر، وأن العد التنازلي قد بدأ، ثم حظرني دون أن يمهلني وقتا لأفهم أو أسأل. كأنه كان هناك خطأٌ ما وقد صحَّحه أخيرا.

تلك اللحظة كانت انكشافا كاملا لما لم أكن أريد أن أراه. لم يكن في داخله أثر لأي وفاء. في تلك اللحظة، سقطت كل الأقنعة. لم أكن بحاجة إلى أي تفسيرات. ولم أسأل نفسي لما فعل ذلك، كان ذلك درسا أخيرا: لا تطلب المساعدة من يد سبق وأن دفعتك للسقوط، كانت تلك النهاية الحقيقية لكل شيء، النهاية التي تعلّمت فيها أن بعض الأبواب لا يجب أن تطرق مرتين، وأن الطريق الوحيد للمضي قدما هو أن تترك الماضي حيث ينتمي: خلفك.

لم أستطع أن أروي كل هذا لمن حولي، عندما كانوا يسألونني عن سبب التغير في ملامحي، عن سبب انسحابي من الحديث أو صمتي الطويل. الحقيقة كانت بشعة، أثقل من أن تُقال. كنت أعلم أن الكلمات لن تنصف ما شعرت به، ولن تنقل الجروح التي خلفتها تلك اللحظات. كنت أخشى أن تُبسط قصتي في كلمات قليلة، أن تتحول إلى حكاية تُروى كأي خيبة عابرة. الحقيقة كانت أكبر من أن أختصرها، أعمق من أن تُفهم بمجرد حديث عابر. كنت أكتفي بالصمت، بابتسامة باهتة تخفي كل شيء. لم يكن الأمر عن الخوف من الحكم، بل عن استحالة التعبير.

في النهاية، كانت الصورة واضحة أمامي. كان يسعى لشيء مختلف، دائرة جديدة وأشخاص جدد، مكان يشعر فيه بالانتصار ولو على حسابي. كنت أنا الثمن، والتضحية التي اختارها ليبدأ من جديد، كنت العائق الوحيد أمام أحلامه. لذا تركته يفوز بكل ذلك، تركته يحقق ما أراد.

ربما كان قراري ينبع من نبل داخلي، أو ربما من قناعة بأنني لن أجد مكانا بين كل تلك الأوهام. في النهاية، كان اختياري أن أتركه ينطلق حيث يشاء، أن أضع نفسي فوق كل تلك الفوضى، بعيدا عن زيف الدوائر.

قيمة ما قدمته كانت أكبر بكثير مما يمكنه فهمه. كل تضحية، كل لحظة تفان، كل مرة اخترت أن أضعه فوق نفسي، وأن أتجاوز الكذب والاستغفال، لم تكن ضعفا كما حاول إظهاره، بل كانت انعكاسا لإنسانية لم يعرف كيف يقدّرها.
ما قدمته كان حقيقيا، وما خسره كان أكثر مما يمكن استيعابه. خسارته لم تكن في وجودي فقط، بل في فقدان فرصة أن يكون جزءا من شيء حقيقي ونقي وسط عالم يملؤه الزيف. خسارة شخص كان حاضرا في كل لحظة، صادقا في كل موقف.

كنت العابر الذي مر في حياته ليعيد ترتيب فوضاه، من كان حاضرا ليحمل معه أثقالا لم يجرؤ على مواجهتها وحده. والنداء الخافت الذي ذكَّره بأن هناك ما يستحق البقاء. سأظل هناك، في أعماقه، كصوت لا يغيب، كأثر خافت لا يمحوه الزمن مهما حاول دفنه. سيجدني في التفاصيل التي يظن أنها اندثرت، في رائحة عابرة تمر به فجأة، في الأغاني القديمة التي كانت تردد بلا اكتراث، وفي تلك الوعود التي لمع بريقها ذات يوم لكنها لم تمطر أبدا.

سأكون ظلا في ذاكرته، لا يظهر بوضوح لكنه يرافقه في كل خطوة، يذكره بأن هناك شيئا تركه خلفه، شيئا لم يحسن فهمه إلا بعد فوات الأوان. سأعيش في فراغ الكلمات التي لم تُقال، في المساحات التي حاول أن يملأها بغيري ولم ينجح. ليس انتقاما، بل حقيقة تُهمس له في أكثر لحظاته هدوءا: "كنتُ هنا، وكنتُ كافيا".

في مكان ما خلف كل أكاذيبه وخداعه، كان هناك إنسان يحاول النجاة، لكنه لا يعرف كيف. أحيانا، كنت أرى فيه شابا لم يتجاوز طفولته، طفلا مُنهكا يبحث عن الحنان في جيوب الآخرين، يسرق ما يستطيع، لا لأن السرقة تجلب له السعادة، بل لأنها تمنحه شعورا عابرا بأنه حي، ولو لدقائق قليلة.

إن أكثر ما يؤلم في الأمر، هو أنه لم يكن واعيا لحجم الخراب الذي سببه. لم يكن يخطط ليكذب أو ليخدع، كان كل ذلك يحدث كما لو كان خارج إرادته. والآن، حين أفكر فيه، لا أجد في داخلي حقدا، بل حزنا ثقيلا يشتد كلما تذكرت كيف بدا لي حين كنا نجلس سويّا. كأنني كنت أرى فيه انعكاسا لإنسان ضائع، لم يعرف كيف يعيد بناء نفسه، فاكتفى بأن يهدم الآخرين.

إذا كان عليّ أن أضع تشخيصا لصديقي هذا، فلن أجده في كتب الطب النفسي، بل بين سطور الروايات التي تتحدث عن الأرواح الممزقة التي تعيش بيننا، تلك التي ترتدي وجوها مألوفة لكنها تخفي تحتها فراغا لا قرار له. لم يكن مريضا بالمعنى الحرفي للكلمة، بل كان مسكونا بشيء يشبه الخوف الأبدي.

لم يكن الكذب بالنسبة له سلاحا، بل ملاذا. كان يكذب ليُبقي العالم على مسافة آمنة، ليضمن أن أحدا لن يراه أعزل من دفاعاته. كل صداقة جديدة كانت بالنسبة له فرصة لإعادة اختراع نفسه، فرصة ليعيد كتابة تاريخه كما يرغب، ولو على حساب أولئك الذين شاركوه الحقيقة ذات يوم.

لذلك فهذا النوع من الناس، لا يمكن وضعهم في خانة "الضحية" أو "الجلاد"، لأنهم الاثنين معا.


----------

لم أكن أتخيل في يوم من الأيام أني سأقف هنا، على هذه النقطة الفاصلة بين الماضي والمستقبل، أحاول فهم ما مررت به. كيف أنني فقدت أجزاء من نفسي لا يمكن استعادتها، كلما حاولت أن ألتقط الأجزاء المبعثرة من حياتي، وجدت أنني لا أستطيع أن أعود إلى تلك النقطة، لأنني تغيرت.

تجاوزت أوقاتا لا يتجاوزها المرء إلا جماعة، وتعلمت أن القوة لا تكمن فقط في القدرة على الصمود، بل في القدرة على الانكسار ومن ثم التعافي.

لم تكن القصة عنهم، بل عني أنا. عن كيفية استعادة نفسي من جديد، وكيف أتمكن من البحث عن النور في داخلي. كانت تلك الرحلة شاقة، لكنها علمتني أن الشفاء لا يأتي من الخارج، بل من الداخل. وقد أدركت أنني قادر على بناء نفسي من جديد، وأنني لا أحتاج إلى أي شخص ليشعرني بالقوة. قوتي أصبحت في قدرتي على الوقوف مجددا، والتعافي ببطء، بعد كل خيبة أو سقوط.

كان هو أكثر شخص وثقتُ به، ثقة لم أكن قد منحتها لأحد من قبل، وكأنني أودعت بين يديه أحلامي دون أن أطلب ضمانا. لكن الحقيقة جاءت كصفعة باردة، لم يكن يحمل نفس النقاء الذي حملته. كان كل شيء زائفا. صورة صنعتها في مخيلتي لشخص لم يكن موجودا في الواقع.

كنت أظن أن العطاء هو ما يبني العلاقات، وأن الصداقة التي بنيتها معه هي الأصدق والأقوى، وكانت مساحات الثقة التي وضعتها بيننا لا تشوبها شائبة. كنت أفتح له أبواب نفسي وأسراري دون تردد، وكان هو بالنسبة لي الشخص الذي لا يمكن أن يغدر أو يخذل. كان هو الشخص الذي خذلني في النهاية، الشخص الذي سبب لي الألم الأكبر.

إلى القارئ الذي وجد نفسه بين هذه السطور: ربما لم تكن تبحث عن هذه الكلمات، لكنك الآن هنا، وأنت تقرأ شيئا شعرت وكأنه كُتب لك أو عنك. هي ليست قصة فرد واحد، إنها حكاية نعرفها جميعا، حكاية تتكرر عبر التاريخ البشري،
إن كنت وجدت نفسك في تفاصيل هذه القصة، فلا تظن أنك وحدك. كلنا عبرنا تلك الطرق المظلمة، حيث الأصدقاء يخذلوننا، وحيث أكثر الأشخاص الذين منحناهم ثقتنا يغدرون بنا وكأنهم لم يكونوا يوما جزءا من قصتنا.

هذه القصة ليست للشفاء، وليست وعدا بأن الألم سيمضي سريعا. أعرف أن بعض الجروح تبقى، حتى بعد أن تُشفى. وأن بعض الخيبات تصاحبنا بقية حياتنا.

لا تبقى في حياة أحدهم إذا شعرت أنك لم تعد تنتمي. لا تجعل صداقتك حملا ثقيلا على كتفيك. هناك أماكن كثيرة تنتظرك، وأرواح نقية تبحث عنك. امنح نفسك فرصة جديدة، وكن الشخص الذي لم تجده في الآخرين.

وعندما تلتفت إلى الخلف، لا تنظر بغضب أو مرارة. يكفي أنك نجوت. كن بخير، أيها الغريب.

الأحد، ٧ سبتمبر ٢٠٢٥

الناس يتكلمون كثيراً عن البحث عن أنفسهم، لكن الحقيقة أنهم يهربون منها

أي نجاح ينسى العائلة؟ ليس نجاحا

لا تترك أهلك خلفك، فذلك ليس نجاحا.

youtube

تجربة Airbnb

قررتُ أن أجرب العمل في Airbnb

نعم… أنا الذي كنت أرتب وسادتي كأنها قطعة أثرية، وأمسح الطاولة كأنها مرآة في قصر ملكي.

كنت أظن أن الأمر بسيط: تضع إعلانا، يأتي الضيف، يدفع لك بابتسامة، ثم يخرج بسلام.

لكن الحقيقة أن الإعلان في Airbnb يشبه كتابة وصيتك: أنت لا تعرف مَن سيقرأها ولا كيف سينفّذها.

أول سؤال طرحته على نفسي:

ماذا لو جاء الضيف ومعه حذاء يعتبر الطين جزءا من شخصيته؟

وماذا لو قرر أن السرير الذي اخترته بعناية، هو المكان المثالي لقصّ أظافره؟

ثم تذكرت أنني أنا نفسي، عندما أسافر، أفعل أشياء لا أفهمها حتى اليوم.

مثلا: ذات مرة علّقت الجورب المبلل على جهاز التكييف في فندق 4 نجوم، واعتبرت ذلك إنجازا هندسيا.

فقلت في نفسي: "إذا كنت أنا أفعل هذا… فما الذي سيمنع ضيفي من تجربة شيء أكثر ابتكارا؟"

كأن يستخدم الميكروويف لتجفيف حذائه الرياضي، أو مكواة الشعر لتسخين بيتزا قديمة.

الفكرة من Airbnb هي أن تكسب مالا وأنت مرتاح. لكن راحتي ستختفي مع أول رسالة من الضيف تقول:

> "الغسالة تغني أغنية غريبة… هل هذا طبيعي؟"

وبينما كنت أفكر في كل ذلك، ضحكت من نفسي. لأني أعرف النهاية...

سأكتب تقييما للضيف: "كان رائعا، نظيفا، هادئا"

بينما هو سيكتب عني شيء مثل: "المضيف كان لطيفا… فقط يبالغ قليلا في ترتيب الوسائد"

وهكذا أكسب مالا وأخسر سمعتي كمهووس نظافة.

لكن النهاية الحقيقية لم تكن هكذا.

رجعت بعد أيام، دخلت الشقة كالمحقق، بحثت عن الكارثة ولم أجدها.

الطاولات بخير، الكراسي واقفة، حتى الستائر لم تتحرك مليمترا واحدا.

كل شيء كما تركته بالضبط.

ابتسمتُ بفخر وقلت: "ها قد نجحت التجربة"

ثم التفتُّ إلى المطبخ…

ووجدت في الثلاجة شيئا واحدا فقط:

نصف بصلة ملفوفة في ورق ألومنيوم.

لا مال العالم ولا تقييم النجوم الخمسة، سيجعلني أفهم لماذا يترك إنسان بصلة مقطوعة كتذكار.

السبت، ٦ سبتمبر ٢٠٢٥

🖤 التدوينة

عاش جرير والفرزدق عُمرهما في صراعٍ لا يهدأ.

قصائد تتطاير، هجاء يجرح أكثر من السيوف نفسها.

وحين مات الفرزدق، ودفن تحت التراب، انكسرت حروف جرير، وبكى.

وقف عند قبره، وقال بصدق لم يعرفه الناس من قبل:

"لَعَمرِي لقد أشجى تميما وهدَّها… موتُ الفرزدق".

كلمة لم تكن هجاء ولا فخرا، بل دمعة مكتوبة بمداد ثقيل.

في تلك اللحظة، بدا أن العداوة لم تكن إلا وجها آخر للقرابة.

وأن الخصومة الطويلة كانت، في جوهرها، اعترافا بأن الآخر لا يُستبدل.

ولم يكن جرير أول من كتب شيئا مشابها.

الخنساء سبقتْه حين بكت أخاها:

"يُذكّرني طلوعُ الشمسِ صخرًا… وأبكيه لكلِّ غروبِ شمسِ".

والبكاء نفسه يتكرر مع كل فقدٍ عظيم، من الأندلس حتى اليوم.

الرثاء دائما أكبر من الميت نفسه.

إنه بكاء على زمن مضى، على قصائد طُويت، على صراعٍ كان يملأ الدنيا وانتهى بلا بديل.

كما قال أبو البقاء الرندي في نونيته:

"لِكُلِّ شيءٍ إذا ما تمَّ نُقصانُ".

وهكذا، لم يكن جرير يبكي الفرزدق وحده، بل يبكي نفسه أيضا.

يبكي الزمن الذي انقضى، والحياة التي ما عادت تعرف صوتا ينازله.

أغنية المساء

وقت الاسترخاء مع موسيقى هادئة لإنهاء اليوم بشكل جميل أحب الاستماع لهذه الأغنية في المساء، تساعدني على التفكير والهدوء.

youtube
وراء كل كلمة صاخبة، وكل فعل متبجّح، وكل ادّعاء بالبراءة… ضمير مذنب يختبئ.