لم يكن الهرب يوما خطوة واضحة كما يظنّ الناس.
نحن نهرب حين لا نعود قادرين على حمل وجوهنا أمام الآخرين.
نهرب حين نصبح غرباء عن المكان الذي كنّا نحفظ تفاصيله.
نهرب لأن شيئا في الداخل انكسر بصوت لا يسمعه أحد… إلا نحن.

الهرب لا يبدأ بخطوة.
يبدأ بلحظة صغيرة جدًّا لا ينتبه لها أحد:
لحظة نبقى فيها صامتين بينما يعرف الجميع أنّنا كنّا على وشك الحديث.
لحظة ننظر فيها إلى الباب أكثر مما ننظر إلى العيون.
لحظة نضع فيها حقيبة صغيرة قرب السرير “احتياطا”، ثم نقنع أنفسنا أنّنا نسينا إعادتها لمكانها.

يبدأ الهرب حين ينهض شيء ما في الداخل، شيء صغير، يشبه وخزة تختبر قدرتك على الاحتمال.

نحن لا نهرب لأننا ضعفاء، بل لأن المواجهة لم تعد تشبه معركة عادلة،
نهرب حين تُصبح الكلمة التي يجب قولها أثقل من قدرتنا على نطقها.
حين يتحوّل الشخص الذي كنّا نشعر بالأمان قربه إلى مرآة نرى فيها خوفنا القديم يطلّ من وراء العينين.
وأحيانا نهرب ونحن نجلس في أماكننا، دون أن نتحرك خطوة واحدة.

يحدث أن نبتسم كي لا يفهم أحد أن أعيننا كانت تبحث عن أقرب منفذ للنجاة.
يحدث أن نضحك ونحن نرتجف في الداخل، تماما كما يفعل المرضى الذين يعرفون أن الطبيب لن يقول الحقيقة كلّها.

وهناك لحظات، لحظات قليلة، دقيقة، لكنها حاسمة…
لحظات نفهم فيها أن المواجهة لن تمنحنا انتصارا، وأنّ البقاء سيكسر شيئا فينا لا يمكن إصلاحه.
فننهض بهدوء، نجمع أجزاءنا، نسحب ظلّنا خلفنا، ونخرج… كما يخرج شخص من غرفة يطفأ فيها الضوء ببطء.

نهرب ونحن ننظر للمرة الأخيرة خلفنا، كمن يحاول حفظ شكل الأشياء قبل أن يفقدها إلى الأبد.
وهكذا كان هروبي من بيت في مراكش .. لا زلت أتذكر تلك النظرة الأخيرة ..

من الخارج، يبدو الهرب فعلا بسيطا.
لكنّ الداخل يعرف:
الهرب هو أصعب طريقة لنحمي ما تبقى من أنفسنا.

وجميع الهاربين يحملون في أعماقهم السؤال نفسه، السؤال الذي لا يُجاب عنه، لكنه يرافقهم مثل ندبة:
“هل غادرتُ لأن البقاء كان مستحيلا؟ أم لأنني لم أعرف كيف أبقى دون أن أخسر الاحترام والكرامة؟”

وفي كل رواية، في كل حياة، يوجد مشهد واحد يتكرر بصور مختلفة:
شخص يقف أمام نفسه، لا أمام الآخرين، ويعترف بأنّ الهرب ليس نهاية…
بل محاولة يائسة للنجاة من جرح لم نعد نملك القوة لحمله.

ولأن العالم لا يسمع هذا الاعتراف، يظن أننا ابتعدنا بلا سبب.
لكننا نعرف… ونمشي ببطءٍ يشبه وداعا طويلا، وصدورنا ممتلئة بصوت واحد فقط:
صوت الشيء الذي لم نعد قادرين على احتماله.