رأيته في باتاشو ذات صباحٍ بارد في رحلتي الأخيرة للصويرة.
كان يجلس قرب النافذة، يرتشف قهوته ببطءٍ لا يعرفه سوى من عاش عمرا طويلا بلا استعجال.
رجل سبعيني، وسيم وأنيق،
عينان زرقاوان كبحر المدينة حين يهدأ بعد العاصفة.

نظرة واحدة كانت كافية لتصنع شيئا في الهواء.
كأنّ الزمن توقّف بين طاولتين،
وكأنّ ما بيننا ليس إعجابا، بل نوعٌ نادر من الاعتراف الصامت.
ابتسم، فابتسمت.

تبادلنا التحية كمن يتذكّر شخصا لا يعرفه.
ثم اقترب، بهدوء فرنسيّ،
وأخرج بطاقة صغيرة، وضعها أمامي.
بطاقته المهنية.
اسمه، ورقم هاتفه، واسم الرياض الذي يملكه خارج المدينة.

“Appelle moi…”

هززت رأسي موافقا،
لكن قلبي كان يسبقني بخطوة،
يرتب اللقاء القادم كما لو أنه موعد حبّ أول،
موعد بين رجل في الأربعين يكتشف أن الإعجاب يمكن أن يعود بعد كل ما مرّ به،
وبين سبعيني يطلّ من أناقته على العالم كأنه لا يزال في أول فصله الجميل من العمر.

غادر الفرنسي المقهى، وبقيت أنا في مكاني لم أغادره منذ تلك اللحظة.

في المساء، بحثت عن الاسم في الإنترنت.
وجدت صور الرياض الذي ذكره، فخم، هادئ، تحيطه به الورود والأشجار،
زارَه ممثلون وملوك وأمراء من أوروبا.

بدا المكان أشبه بمرآة له:
أنيق، جميل، مليءٌ بالحكايات التي لا يرويها لأحد.
تأملته طويلا، ثم أغلقت الصفحة دون أن أحفظ الرابط،

نحن من عالمين مختلفين.
هو قادم من أماكن لا يُسأل فيها عن ثمن القهوة،
وأنا… من تلك الزوايا التي تُعد فيها النقود قبل الطلب.

كان واضحا من طريقته، من بطاقته، من صور الرياض المخمليّة،
أن المسافة بيننا لا تُقاس بالكيلومترات،
بل بالسنوات الضوئية.

لم أذهب للقائه الجمعة السابقة، إذ انتقلت إلى مدينة مراكش ..
ولأن اللقاء الحقيقي كان حدث فعلا، في تلك النظرة الأولى،
حين عبر الضوء بيننا،
وقال كلّ ما لا تقوله اللغة.

ربما لن أراه مجددا.
وربما كان فقط علامة على أن القلب لم يمت،
بل كان ينتظر نظرة عابرة… من عينين زرقاوين.