كان المساء ساكنا، لا شيء يتحرك سوى صوته،
قالها كما يقول الناس أسرارهم الأخيرة:
“أنا لا أرى جيدا.”
ولم يكن في الجملة ما يُبكى عليه،
ومع ذلك، شعرت أن العالم خفت ضوءه قليلا.
لم أعرف بمَ أجيبه.
فقط ابتسمت، كمن يطمئن قلبا لا يعرف أنه مكسور.
كنا نعيش في شقة صغيرة تطل على الشارع،
حيث يمرّ النهار كموكبٍ من الأصوات:
الباعة المتجولون، الأطفال في طريقهم إلى المدرسة، أصوات الدراجات النارية’,
وضوء المساء الذي يدخل بلا استئذان ويغادر خلسة.
كان يميل برأسه كلما حدّثته، كأنه يبحث عن شيء في مكانٍ لا أصل إليه.
كنت أظنه شارِدا، أو يفكّر في شيءٍ أبعد من الغرفة.
في طفولته، كانت أمه أول من لاحظ.
عاد يوما من المدرسة وقال بثقة، كمن يروي ملاحظة عابرة عن العالم:
“لا أرى جيدا.”
حملت والدته دمعتها في صمت، كما تفعل الأمهات حين يرين المستقبل يبتعد خطوة واحدة عن طفلٍ لم يبدأ بعد.
اصطحبته إلى الطبيب، وهناك علمت أن ابنها لا يرى الأشياء جيدا،
لم تبكِ. فالخوف كان أكبر من الدمع.
فقط نظرت إلى ابنها طويلا، كأنها تحفظ ملامحه.
ثم مدّت يدها نحوه ومسحت على كفّيه برفق يشبه العهد،
كأنها تقول له من غير كلام:
“ما دمتُ أراك، فلن يفوتك شيء.”
ومنذ ذلك اليوم، صار خوفها شكلا آخر من الحب.
كانت تراقبه في صغره،
تُصلح أزرار قميصه، وتعدّل ياقة معطفه قبل أن يخرج،
وتناديه كل مساء لتتأكد أن عينيه لم تتعبا من الضوء.
كان حُبّا لا يرى النقص، بل يحميه كما تُخفى الجراح تحت الملابس.
سنوات طويلة بعد ذلك، لم يقل شيئا.
حتى تلك الليلة التي تساقط فيها المطر على النافذة،
قال بصوت واهن، كأن الكلمات تثقل عليه:
“هناك أشياء كثيرة لا أراها كما يراها الآخرون.”
قلت بعد صمتٍ طويل، وأنا أحدّق في يديه المضمومتين على الطاولة:
“ربما… لا تحتاج أن تراها. يكفي أن تشعر بها.”
رفع رأسه ببطء، بعينين كأنهما تبحثان عن شيء وسط الضباب، وقال:
“وأنت… هل تشعر بذلك؟”
لم أجب فورا. فقط ابتسمت تلك الابتسامة التي تشبه البكاء حين يُكابر.
اليوم، حين أستعيده في ذاكرتي،
إنسانٌ لم يحتج إلى عيونٍ كثيرة ليبصر ما لا يراه الآخرون:
ارتعاشة الصوت التي تخفي وجعا،
الدمعة التي تتراجع في منتصف الطريق،
والحب الذي يختبئ خلف جملة عابرة.
أبصرَنا جميعا كما نحن… بوضوح موجع.
ولعلّ هذا ما جعله، أقربَ إلى الإنسان الذي نسيناه فينا.