لم تكن الرحلة طويلة، لكنها بدت أهم من كل السفريات التي عشتها في السابق.
كنتُ أسافر مع أمي، لكن ليس إلى مدينة جديدة،
بل إلى زمن قديم… إلى تلك السنوات التي كانت هي في الأربعين، كان عمري 5 سنوات، ولا زلت أتذكر ذلك كأنه حدث بالأمس القريب ..
في الطريق، كانت تسألني إن كنت جائعا، وإن كنت دافئا،
وتعيد السؤال بعد دقائق، كما لو أن الاطمئنان لا يكتمل من المرة الأولى.
كنت أراها تتلفّت حولها في المحطات، تخاف أن أضيع وسط الزحام أو أن أتأخر خطوة عنها.
وفي يدها كيس صغير من البطاطا المقلية اشترته لي.
كانت تلك الوجبة البسيطة أغلى ما يمكن أن أملكه في العالم آناذاك ..
أتذكّر تلك الرحلات القديمة كأنها تحدث الآن.
رائحة الحافلة، ابتسامتها وهي تناديني، نظرتها تسبق يدي إلى الباب.
كلها تفاصيل صغيرة، لكنها بقيت حيّة،
كأنها لم تمرّ عليها السنوات التي غيّرتنا.
اليوم، حين أسافر معها من جديد،
أحمل حقيبتين: واحدة فيها ثيابنا، وأخرى فيها امتنان عمر كامل.
أحاول أن أكون صبورا، أن أمسك يدها كما أمسكت يدي من قبل.
أعرف أنني لا أستطيع رد الجميل،
لذلك أرافقها الطريق، لأجعل هذا السفر امتدادا لما بدأته هي من زمن بعيد.
وفي كل محطة نقف فيها، أرى الماضي يجلس معنا على المقعد المقابل،
يبتسم في صمت، كأنه يقول:
الوقت مضى، لكن الحب لم يذهب معه.