عاد إليّ الاكتئاب كصديقٍ قديم يعرف طريق البيت دون استئذان.
لم يطرق الباب هذه المرة، فقط جلس في الزاوية نفسها التي تركته فيها قبل أعوام.
في البداية، تجاهلته.
صببت القهوة، فتحت النوافذ، وحاولت أن أملأ الغرفة بصوت ضوء جديد، لكن الضوء لا يقنع من يعرف العتمة حقّ المعرفة.
كان يبتسم لي بملل، كمن يقول: “جرّبت هذا من قبل، أليس كذلك؟”
كان رفيقي في سنواتٍ طويلة، عشتها وأنا أرتدي قناعا.
كنت أُضحك الآخرين، أرفعهم عندما يسقطون، أطمئنهم أن الغد سيأتي أجمل.
كنت السند الذي لا يجد ما يسنده.
والجدار الذي يتكئ عليه الجميع.
كلما حاولت أن أستريح، تذكّرت أنهم يحتاجونني واقفا. فابتسمت، وواصلت الوقوف.
كان الاكتئاب يعود دائما في اللحظات التي يهدأ فيها كل شيء.
حين تنام المدينة، وينطفئ الهاتف، ويغيب الجميع في نوم مطمئن، يزحف هو ببطء إلى صدري.
فقط يجلس بجانبي ويبدأ في الحديث بصوت خافت.
تعلمت أن أبدو بخير كما يتعلّم الأسير كيف يبتسم للسجان.
كنت أقول لنفسي: “غدا سيكون أخفّ.”
لكن الغد كان يأتي ثقيلا.
الاكتئاب ليس وحشا،
إنه ظلّ الإنسان حين يتعب من التمثيل.
إن كنتَ تقرأ هذا الآن وعيناك تلمعان بصمت،
فاعلم أنني أعرف هذا اللمعان، أعرف ثقله ومرارته،
ربما كل ما في الأمر أن الأقنعة سقطت،
سقطت عنّا كما تسقط أوراق الخريف عن الأشجار التي أرهقها الانتظار.
وبعد كل هذا التعب، لم يبقَ فينا إلا الأصل.
تذكّرتُ سعاد حسني وهي تغني بصوت يبدو فرحا لكنه مكسور من الداخل:
بانو بانو… على أصلكو بانو
نعم، على أصلنا بان التعب، بان الصدق، بان الحزن النبيل الذي حاولنا إخفاءه خلف القوة.
بانت الحقيقة التي لم يجرؤ على قولها أحد:
أننا لم نكن أبطالا، بل ناجون.
ناجون من أنفسنا،
من خيباتنا،
ومن كل تلك الليالي التي جلس فيها الاكتئاب كصديق قديم لا يريد المغادرة.