لم أكن أنوي أن ألتقي بأحد في مدينة تطوان. لكن الحياة، كالعادة، تحب أن تتسلل من بين الجداول الصغيرة لتفاجئنا بلقاء بسيط يشبه المعجزة.
شخص موجود في حسابي في فيسبوك، من النوع الذي تظن أنك تعرفه لأنك ضغطت على “إعجاب” لصوره مرات كافية، ثم تكتشف حين تراه أن العالم الواقعي أكثر دفئا من أي شاشة.
هادئ كالمساء بعد المطر، رجل من فئة “ولد دارهم” كما نقول في المغرب، نضج ملفت، وحديث بطيء كمن يقيس الكلمات بمكيال من ذهب.
جلسنا في مقهى صغير يطلّ على الساحة القديمة. النسيم كان منعشا، يمرّ على الكراسي المعدنية كعازف يختبر أوتار آلة قديمة.
كان يتحدث عن متجره، وعن الصباحات التي يفتح فيها الباب الحديدي ويكنس العتبة بنفسه. كنت أستمع، مأخوذا بفكرة أن هناك بشرا ما زالوا يعرفون “البداية” من دون شاشات أو إشعارات.
كل شيء فيه يوحي بالثقة الهادئة، تلك التي لم يتدرّب عليها الناس في ورش “تطوير الذات”, نظرت إليه وهو يشرح شيئا عن البضائع، وخطرت لي فكرة غريبة: أن هذا الرجل، الذي لا يملك حسابا على تويتر، ربما يعرف عن الحياة أكثر مما تعرفه كتب التنمية كلها.
لم يكن بيننا ما يستحق أن يُروى في نشرات الأخبار، لكنّ شيئا في طريقة حديثه عن الحياة جعلني أشعر أننا، رغم اختلاف العوالم، نلتقي عند نقطة خفية: الإيمان بالإنسان.
ثم قالها ببساطة، دون تمهيد: أن والدته توفيت وهو صغير. قالها وكأنه يصف طقس يوم عادي، لكن عينيه قالتا شيئا آخر، شيئا يشبه الصمت الذي يبقى بعد بكاء طويل.
في تلك اللحظة فهمت الكثير. فهمت لماذا يصغي أكثر مما يتكلم، ولماذا يحمل في نبرته دفئا لا يمكن تعلّمه في أي مدرسة. ربما لأن كل من يفقد أمّه صغيرا، يعيش بنصف قلب ونصف روح.
يبقى يبحث عن اليد التي لم تكمل ضمّته، وعن الصوت الذي انقطع قبل أن يكتمل الحرف الأول.
قال لي، وهو ينظر إلى المارة في الساحة: «صعب تلقا شي حد يشبه البيت.»
كلماته كانت بسيطة، لكنها خرجت من مكان عميق، من طفولة ظلّت تنتظر بابا يُفتح وصوتا يقول: “هل رجعت يا ولدي؟”.
حين افترقنا عند باب المقهى، مدّ يده بهدوء، وفي عينيه تلك النظرة التي تشبه الغروب، جميلة، لكنها موجعة. قال فقط: «أنت حنين.»
ومشى بخطوات واثقة كمن يهرب من شيء قد يوقظه من حلم جميل. بقيت أنظر إليه مبتعدا، وأحسست أن هذه الجملة القصيرة، الصادقة، الثقيلة، كانت أكبر من أي وداع. كانت اعترافا من رجل قضى عمره يبحث عن الحنان… ووجده، ولو للحظة، في هيئة صديق عابر من تطوان.