كانت رسائله قصيرة، أشبه بتحية عابرة في شوارع الإنترنت.
ردودي كانت مجاملة أكثر منها اهتماما، حتى إنّي كنت أخلط بينه وبين آخرين من قائمة الأصدقاء التي تضخمت حتى فقدت معناها.
لكن حين التقيته في تطوان، تغيّر كل شيء.
كان حضوره مختلفا، من النوع الذي لا يُشبه أي صورة ولا أي “بوست”.
يتحدث عن العمل، عن الناس، عن الحياة، بعمق لا يعرف المصطلحات، لكنه يعرف الجوهر.
كان كمن قرأ العالم دون أن يفتح كتابا واحدا.
في طريق العودة، ظللت أفكر فيه، وفي كل من يشبهه.
أولئك الذين تعلّموا من الخسارات أكثر مما تعلمنا نحن من الكتب،
ومن المواقف أكثر مما تعلمنا من المقالات.
لا أعرف ما الذي حدث بالضبط، لكن شعرت بارتياح غريب.
ذلك النوع من الطمأنينة التي لا تصنعها الكلمات بل الحضور،
كأن شيئا في ملامحه يذكّرك أنك كنت تعرفه من قبل.
الإعجاب كان متبادلا، واضحا بلا حاجة لاعتراف.
تواعدنا على لقاء آخر، في نهاية الأسبوع،
رحلة قصيرة إلى شفشاون، المدينة الزرقاء التي لا تشبه أي مدينة أخرى،
قلت له مازحا إنني لا أنوي شيئا،
وهو ضحك وقال: “ولا أنا.”
كغريبين يلتقيان في منتصف الحلم.
لا خطط ولا وعود، فقط رغبة صادقة في أن نترك كل شيء للصدفة،
لعلّها تعرف أكثر منا ما الذي يجب أن يحدث حين يلتقي اثنان… في التوقيت الصحيح.
لم أكن أظن أن اللقاء القصير يمكن أن يترك هذا الأثر الطويل.
كأن شيئا من ملامحه ظلّ عالقا في الذاكرة، مثل عطر لا يزول حتى بعد أن يرحل صاحبه.
كان الوداع بسيطا، لا كلمات كبيرة ولا وعود،
فقط نظرة هادئة، وابتسامة.
في طريق العودة، شغّلت أغنية لأمال ماهر «كان في زمان والحب كان أمان».
صوتها كان دافئا ككفّ تُربّت على القلب،
الأغنية عن الذين مرّوا في حياتنا دون أن يقصدوا البقاء،
لكنهم تركوا فينا أثرا كأنهم عاشوا عمرا كاملا.
كنت أسمعها وأفكر أن بعض القصص لا تحتاج أن تكتمل،
يكفي أن تبدأ بالصدق كي تظل جميلة إلى الأبد.
ربما سنلتقي ثانية، وربما لا،
لكن شيئا في داخلي يعرف أن الحياة لا تكرّر اللقاءات التي تأتي بهذا النقاء.