لم يتغيّر شيء كبير في البيت حين جاءت والدتي قبل شهر.
كان كل شيء كما هو.
لكن وجودها…
كان يشبه ضوءا لا نراه مباشرة،
نحسّه فقط حين ينطفئ.
جاءت من وجدة بحقيبة صغيرة،
وكثير من التعب الذي تخفيه بابتسامة الأم التي اعتادت أن تضع الجميع أمامها، وتأتي هي في آخر الصفّ بلا شكوى.
في الصباح الأول، وضعتُ أمامها طبقا بسيطا:
زبدة، عسل، وبعض الفواكه.
جلستْ وأمسكت الخبز ببطء،
كأنها تتعلم الطقس الجديد الذي وجدته هنا.
وضعت قليلا من الزبدة، وقليل من العسل…
وبدأت تأكل بصمت يشبه صلاة قصيرة.
لم تقل: “أنا محرومة من كل هذا”.
الأمهات لا يقلن ذلك.
هنّ فقط يتصرفن كمن يتذوّق طعاما كان يعرفه يوما ثم نسيه.
كنت أراقبها دون أن تشعر.
وكُلُّ لقمة كانت تتركني في مواجهة سؤال بسيط ومؤلم:
كيف يمكن أن يحرمنا الزمن من أبسط الأشياء دون أن ننتبه؟
كانت تأكل الفاكهة كأنها هدية،
وتشرب الشاي وكأنها تستعير لحظة راحة من حياة مزدحمة في وجدة،
حياة لا تمنحها هذه التفاصيل الصغيرة…
لأنها ببساطة مشغولة بالركض.
اكتشفتُ، دون أن تقول،
أنها كانت تعيش سنوات طويلة بلا زبدة في الفطور،
بلا عسل،
بلا فاكهة تقطعها على مهل.
ذلك النوع من الحرمان الهادئ
الذي يتسلّل إلى حياة الكبار حين ينشغلون عن أنفسهم.
نحن نظن أن الأشياء الصغيرة لا تعني شيئا،
لكنها، حين تُمنح لشخص نحبّه،
تصير اعتذارا صامتا،
ويدا تربت على غُربة لم نرها.
طوال الشهر، كان حضروها يخفّف عني شيئا لا أعرف اسمه.
كانت تملأ البيت بحضور يشبه دعاء مفتوحا،
كأنها تقول:
“ما زال في هذا العالم مكانٌ نستريح فيه قليلا.”
واليوم… غادرت.
لم يتغير شيء في الشقة،
لكن الطاولة بدت أكبر مما ينبغي،
والكرسي الذي كانت تجلس عليه أصبح فارغا.
وضعتُ طبق الزبدة في الثلاجة.
أعدت ترتيب الفاكهة.
لكن كل شيء بدا بلا طعم.
كانت طريقة صامتة لنكتشف كم ننسى أهالينا
وكم نسمح للحياة بأن تسرق من أفواههم أشياء لا يجب أن تُسرق.
وأنا… لم أُدرك كل هذا،
إلا حين رأيتُ أمي تأكل قطعة خبزٍ بالزبدة والعسل
كما لو أنها تستعيد جزءا ضائعا من حياتها.
وحين أغلقتُ الباب خلفها،
شعرتُ أن شيئا صغيرا خرج معها…
لم أبكِ.
اليوم…
تركت لي الملاعق في مكانها،
والكوب الذي كانت تشرب منه،
والهواء الدافئ الذي ظلّ معلّقا فوق الكرسي.
وخلّفت ورائي سؤالا لا أعرف كيف أهرب منه:
كم من الأشياء التي نظنها تافهة
قد تكون بالنسبة للآخرين حياة كاملة؟
جلستُ على الطاولة،
لم ألمس شيئا،
لكن الدموع جاءت هذه المرة
واضحة…
صادقة…
ومحمّلة بخجل لا يعرف كيف يُصلَح.
عرفتُ أخيرا،
أن الأم لا تزور لتستريح…
بل لتُذكّرك ..
بكل ما أهملته أنت،
حين كنت مشغولا بالنجاة.