لم أكن أعرف أن جلسة قصيرة مع الشاب التطواني ستفتح أمامي بابا لم أفكّر فيه من قبل.
كنت دائما أعتقد أنني أعرف الحياة،
أو على الأقل أعرف خريطتها عبر مقالات مكتوبة بخطّ مزخرف على الإنترنت.
لكن الليلة أدركت شيئا بسيطا ومحرجا في الوقت نفسه:
هناك فرق كبير بين أن تتعلّم الحياة… وأن تعيشها.

كنا نجلس متقاربَيْن،
بدأ يحكي لي عن حياته في تطوان:
عن السوق،
عن الناس،
عن الصباحات التي تبدأ قبل ضوء الشمس،
وعن الدروس التي لا تُكتب في الكتب،
بل تُقال عبر نظرة، أو صفقة، أو خيبة، أو كذبة تُكتشف قبل أن تُقال.

كان يتحدث بثقة رجل يعرف أن الخبرة ليست شيئا تُؤخذ من يوتيوب،
بل من الاحتكاك اليومي بالعالم…

وأنا؟
كنت أستمع إليه بفضول… وبقليل من الخجل.
فأنا رجل عاش عمره بين الشاشات،
يبدأ يومه بمحركات البحث،
وينهيه بمقالات طويلة عن “الحكمة” و“العلاقات الصحيّة” و“كيف تصبح نسختك الأفضل في 7 خطوات”.
كنت أظن أنني مثقّف…
ثم اكتشفت أنني مجرد شخص يقرأ عن الطريق بدل أن يمشي فيه.

هو يعرف الناس لأنهم مرّوا به واحتك بهم.
وأنا أعرفهم لأنهم مرّوا من صفحات ويكيبيديا.
هو يعرف كيف يقرأ الوجوه.
وأنا أعرف كيف أقرأ ال notifications.

هو يعرف معنى الصداقة حين يضع يده على كتف صديق ويقول له: “أنا هنا.”
وأنا أعرف معنى الصداقة حين يرسل لي أحدهم رابط Google Drive فيه صورة قديمة.

في لحظة معينة، كان يتحدث،
ثم وقع ذلك الإدراك الذي يُشبه وخزة مؤذية:
نحن من عالمين مختلفين.

هو ابن الواقع…
وأنا ابن الإنترنت.

هو يعرف الحياة بالاحتكاك اليومي.
وأنا أعرفها بالمقال الأسبوعي.

غادر الشاب،
وبقيت أفكر:
ربما كنت دائما أبحث عن شخص يشاركني عالمي الرقمي…
لكن الليلة اكتشفت أن عالمي الحقيقي بدأ للتوّ ..
من رجل جاء من جبال تطوان..
يحمل في كلامه ما لا تحمله ألف مكتبة على الإنترنت.