كنتُ جالسا أمام النافذة المفتوحة،
أراقب الشارع الفارغ،
وفجأة مرّ في داخلي ذلك الشعور…
الشعور بأن هناك روحا قديمة مرّت من هنا وغادرت،
لكن الهواء ما زال يحمل طيفها.

بعض الأشخاص لم يكونوا هدية كما ظننا في البداية،
كانوا درسا نحتاجه كي نرى أنفسنا بوضوح.
درس لا نطلبه دائما، لكن الحياة تضعه في طريقنا على أي حال.
ونخرج منه وقد تغيّر فينا شيء إلى الأبد.

فكرتُ بك كما لو أن الزمن لم يمضِ،
كما لو أن الصداقة لم تنطفئ،
وكأنك لا تزال تنتظر على الرصيف القديم ..

تذكرت تفاصيل صغيرة لا قيمة لها ,,
لكنها كانت، بالنسبة لي،
الدروس الأكثر صدقا في حياتي.

تعلمت منك ذلك الصبر الذي يشبه حيلة شخص عرف العاصفة ووقف في وجهها بشجاعة،
ذلك اللين الذي لم أفهمه وقتها…
لين الشخص الذي عرف أن الانتصار الحقيقي ..
هو أن تحفظ كرامة الآخرين،
لا أن تربح الجدال.

لين إنسانٍ كان يفهم أن اللطف هو آخر شكل من أشكال الشجاعة.
ولم أعرف وقتها…
أنك كنتَ ملاذا صغيرا في يوم ضاق فيه العالم،
وأنك كنتَ تنقذني بينما كنتُ أظن أنك فقط “ترافقني”.

أكتب.
كنوع من الامتنان ..
الامتنان الذي يأتي متأخرا،
والذي لا نملك الشجاعة لنعترفه به ..

لعلّ ما يؤلم اليوم ليس الدرس الكبير،
بل أني أدرك—بعد كل هذا الوقت—
أن الخير الذي فعلته معي لم تكن مضطرا له،
وأن ما قدمته لي لم يكن بسيطا كما ظننته حينها.

أشياء صغيرة… لكنها كانت يدا تؤجل عني السقوط.
وأن ما ظننته “رفقة عابرة”
كان في الحقيقة شيئا يشبه الإنقاذ…
إنقاذا لم أفهمه وقتها،

تأخرتُ كثيرا كي أفهم ..
أن ما فعلته معي لم يكن بسبب قوة لديك،
بل فوق التعب الذي كنت تحمله.
وأن ما بدا لي “تصرفًا صغيرًا”
كان في الحقيقة آخر ما تملك من طاقة…
وأنت منحتها لي.

لم أعرف وقتها كيف أشكرك،
ولا حجم ما فعلته لأجلي…
لم أفهم إلا حين لم يبقَ سوى الأثر،
وحين صار الامتنان شيئا يصل متأخرا…

دعني أقولها اليوم،
حتى لو لم يسمعها أحد غيري ..

شكرا ..
شكرا لأنك كنتَ بيتا يوما ما.
وربما لأن البيت الأول لا يُنسى،
حتى لو تغيّر الباب،
وانطفأت الأنوار.

وربما… رغم كل ما تغيّر،
يبقى هناك ضوء خافت لا يعرف الرحيل.
ضوء يزورني في الليالي الثقيلة،
كأنّه يقول لي إن الطريق لم يكن مظلما دائما،

نور يذكّرني بأنني لم أعبر تلك الأيام وحدي،
وبأن يدا كانت تمشي إلى جانبي
حتى لو لم أرى ذلك بوضوح.

وإلى اليوم …
ذلك الضوء الخافت ما يزال يرافقني،
صامتا،
عنيدا،
وأحيانا… منقذا.